شهدت العقود الستة الماضية علاقات متموجة بين القاهرةوموسكو، وكانت بين مدّ وجزر لكنها لم تنقطع، حتى بعد قرار الرئيس السادات ابعاد الخبراء الروس، وذلك لأسباب سياسية وعسكرية فى مقدمتها التسلح المصرى بعد ثورة يوليو وبالتحديد بعد الانعطافة الشهيرة عام 1955 حين كانت صفقة السلاح التشيكية بداية التوجه الى الشرق، لكن العلاقات بين القاهرةوموسكو بلغت ذروتها فى مطلع الستينيات من القرن الماضى خصوصا بعد تشييد السد العالى الذى حاولت امريكا من خلال الضغط على البنك الدولى اجهاضه، وهناك اطروحات عديدة منها ما هو اكاديمى وسياسى وحتى ايديولوجى عن هذه العلاقات. لكن الاهم على الاقل فى هذا السياق هو ما اسميه مقاربة فوق سياسية، فالقواسم المشتركة بين مصر وروسيا عديدة منها العراقة والعمق التاريخى للدولة، اضافة الى ما يمتاز به البلدان من قوة ناعمة بالمعنى الدقيق لهذا المصطلح الذى ينسب الى جوزيف ناي، وهنا يجب فك الاشتباك بين عدة مصطلحات يتوهم البعض انها مُترادفة وتعنى فى نهاية المطاف القوة الناعمة، فالدولة الرخوة قُدمت على نحو مغاير لمعناها الدقيق فى فترة حملت بها الدولة صفات غير مسبوقة، بحيث ظهرت دراسات بعناوين دراماتيكية منها الدولة الفاشلة تبعا لمفهوم تشومسكى وبالتحديد فى كتاب اصدره قبل عشر سنوات ، والدولة العميقة تعبيرا عن تجذر الاجهزة الامنية والبيروقراطية، وهو ما سماه الكاتب التشيكى ميلان كونديرا كثافة الدولة مقابل شفافية الفرد. وهناك عناوين ذهبت الى ما هو ابعد من هذا منها الدولة المنتحرة، والدولة المارقة ، لكن هذه التصنيفات تبقى خاضعة للاستراتيجيات والنوايا، لهذا لم تنجح دائما استراتيجيات إفشال الدول سواء من خلال حصارها او شيطنتها، ولو كان الحصار وحده كافيا لسقط النظام العراقى قبل ثلاثة عشر عاما من الاحتلال الامريكى بسبب الحصار، ولما اضطر الغرب الى استخدام القوة العسكرية لحلف الناتو لاسقاط ليبيا، خصوصا ان حصارها فى نهاية الثماينينات من القرن الماضى لم ينجح فى تفكيكها . المشترك الحضارى بين مصر وروسيا لا يتوقف عند القوة الناعمة، بل يتخطاها الى ميراث من المنجزات الفكرية والسياسية التى انحازت للمغلوبين على امرهم، ولم يكن سقوط الاتحاد السوفيتى فى نهايات الحرب الباردة سقوطا تاريخيا وقوميا لروسيا، اذ سرعان ما تململ الدب الذى غاب فى سبات عميق، وحين كانت روسيا فى ظل البيروسترويكا تترنح وتعيش شيخوخة سياسية تجسدت فى الرئيس يلتسين فإن مصر مرت ايضا بمثل هذه النوبة ، وكان الرهان على ان مصر قد بلغت عدة شيخوخات مُتزامنة ، سياسية تجسدت فى نظام حكم يقوده رئيس تجاوز الثمانين واقتصادية عبرت عنها ازمات مزمنة، واخيرا عمرانية تجسدت فى العشوائيات. وكما نهض الدب الروسى من سباته وظهرت بشارة قيامة قومية مؤجلة، اعادت الى موسكو الهيبة المفقودة، وبدأت تؤهلها لكى تكون قطبا فاعلا فى السياسة الدولة فإن مصر ايضا شهدت قيامة مماثلة، وان كانت كروسيا تعانى مديونيات غير اقتصادية ، بل هى حضارية وثقافية بامتياز، فقد تسببت عوامل عديدة فى تقليص دور مصر اقليميا وراهن البعض على انها سوف تنهمك فى شجونها المحلية، لكن ما حدث افسد الرهان، وبدأت مصر تستعيد عافيتها فى الاقليم، وتمارس دورها المنوط بها قوميا منذ القدم وقد يكون احد اسباب الابطاء فى استعادتها لدورها هو اولوية الدفاع عن الدولة وعدم تعرضها للتفكيك، رغم ان هناك استراتيجيات راهنت على ذلك ، وان كان لدى القوى الدولية التى تعبر عن هذه الاستراتيجيات قناعة بأن مصر لا يمكن تفكيكها بالغزو كما هو الحال فى العراق، وللغرب تجارب مريرة فى هذا السياق منذ عام 1882 وان كانت ثورة 1919 هى المثال الذى تحول الى جملة معترضة فى كتاب الاستشراق الكولونيالي، حين ادرك الانجليز ان غزو مصر يوحّدها وان تفكيكها لا يتم الا من الداخل ومن خلال استراتيجية سميت قضم وتجريف الاحشاء، لكن هذه المحاولات لم تكن الا قصة فشل، لأن مصر تماسكت واستدعت احتياطياتها الاستراتيجية فكريا وقوميا اضافة الى قوتها الناعمة التى اهلتها لقيادة الوطن العربي!. مصر وروسيا مثالان لجدلية السبات والقيامة، ففى اقل من عقد من الزمن استعاد البلدان كثيرا من العافية الوطنية، ولم تتحول روسيا الى غنائم الحرب الباردة كما ان مصر لم تتحول الى تضاريس طائفية وميليشيات، بل جعلت من حراسة الدولة ومؤسساتها اولوية بكل المقاييس، وحين نقارن بين علاقات مصر وروسيا فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى وبينها فى هذه الآونة، نجد ان البعد الايديولوجى قد تراجع لصالح ابعاد واعتبارات سياسية وفوق سياسية، لهذا فالمسألة بين القاهرةوموسكو قد تستطيل قليلا اوقد تقصر، لكنها تبقى فى نطاق الرهان الاستراتيجى المزدوج لدى العاصمتين . وعلى سبيل المثال فان سقوط الطائرة الروسية بحمولتها من السياح كان بمثابة الضارة النافعة لدى من يراهنون على القطيعة بين مصر وروسيا، ورغم كل ما تخلله من السيناريوهات السياحية والسياسية معا خلال بضعة اعوام الا ان القطيعة لم تحدث، وهناك فى الآفاق ما يوحى بأن المسافة بين القاهرةوموسكو تقصر ولا تستطيل، لأن هناك اكثر من مشترك استراتيجي، وحين تكون الدول من هذا الطراز العريق والذى يصاب بوعكات سياسية واقتصادية ثم يستفيق منها أشد واقوى فإن مجال التفاهم يكون اوسع، وهذا ما لا يرد فى اجندات دول صغرى، اقصى ما تسعى اليه هو البقاء على قيد التاريخ. ولو تعرضت دول كثيرة لما تعرضت له مصر وروسيا فى العقود الثلاثة الماضية لربما كانت فى قائمة الدول الفاشلة والملقاة على قارعة التاريخ ورصيف الجغرافيا ، لكنهما امتلكتا من الاحتياطى التاريخى وتقاليد الدولة ومؤسساتها اضافة الى القوة الناعمة ما يكفى لأن تتلقحا بأمصال قومية ضد الاصابة بفقدان المناعة القومية . ولأن اى مقاربة فوق سياسية يهمها المسكوت عنه تاريخيا فهى فى غنى عن الاستغراق فى تفاصيل اجرائية كالمعاهدات وما يسمى المصالح المشتركة، ومن اتيح له ان يعيش زمنا فى كل من القاهرةوموسكو لا بد انه رأى مُشتركا حضاريا وتاريخيا وانسانيا يتجاوز السياسة بمعناها المألوف. لمزيد من مقالات خيرى منصور