فى هذا المكان نفسه كتبت العام الماضى عن ضرورة شد الرحال إلى المسجد الأقصى دعما لأبناء القدس باعتباره واجبا شرعيا ووطنيا، وقد تلقيت رسائل من بعض أعضاء النخبة المثقفة التى اعتبرت هذه الدعوة شكلا من أشكال التطبيع مع إسرائيل، وأنا اليوم أعيد النداء بعد أن قام السفير الأمريكى فى إسرائيل «ديفيد فريدمان» بتدشين المرحلة الأولى من نقل السفارة الأمريكية للقدس، ثم تلقيه صورة يوم 22 مايو 2018 للحرم القدسى الشريف تم فيها إزالة المسجد الأقصى وقبة الصخرة ووضع مجسم للهيكل الثالث مكانهما، بالتزامن مع تحذيره السلطة الفلسطينية من رفض المبادرة الأمريكية للسلام التى تعتزم عرضها على الجانبين الاسرائيلى والفلسطينى خلال الأشهر المقبلة، وتلويحه بعدم الرضا عن تصرفات القيادة الفلسطينية، وإيحائه بضرورة قيام الشعب الفلسطينى باختيار قيادات راغبة فى تحقيق السلام، فى الوقت الذى تدرس فيه واشنطن حاليا إمكانية اتخاذ «خطوات عقابية» بحق ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية لديها، ردا على توجه السلطة الفلسطينية إلى محكمة الجنايات الدولية فى لاهاى للمطالبة بالتحقيق فى مقتل عشرات المتظاهرين الفلسطينيين عند حدود قطاع غزة بنيران الجيش الإسرائيلي. ورغم ادعاء السفارة الأمريكية فى تعقيبها أن السفير «فريدمان» لم يكن على علم بما تحويه الصورة التى عرضت عليه، إلا أن سفير أمريكا يتبنى توجهات صهيونية واضحة ومنحازة لوجهة نظر اليمين المتطرف فى إسرائيل، فهو مساهم فى تمويل عمليات الاستيطان فى القدس الفلسطينية العربية، ومالك لثلاثة منازل فى القدس تم تخصيصها للاستيطان، ومن ثم فإن هذه الصورة تفتح الباب مجددا للموقف التاريخى الذى قاده الشهيد ياسر عرفات فى قمة كامب ديفيد1999، ورفض فى حينه أى مقترحات تحاول المساس بواقع البراق تاريخا ومكانة، رفض كليا أى صلة تربط بين «هيكل سليمان» وساحة البراق، وقد كشف الرئيس كلينتون فى محاضرة بجامعة جورج تاون عام 2014، كيف أن الرئيس عرفات رفض مقترحا «إسرائيليا» تبناه الرئيس كلينتون وفريقه كاملا، يقضى بان البراق والأقصى منطقة فلسطينية عدا 16 مترا تؤدى الى نفق يشير الى انها بقايا «الهيكل»، إضافة الى التمييز بين السيادة فوق الأرض للفلسطينيين ، والسيادة تحت الأرض لإسرائيل، وهو ما أدى عمليا الى انهيار المفاوضات. يتضح من الأنشطة والتصريحات الأمريكية أن قرار الرئيس ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة من تل أبيب إلى القدس يشكل البداية لمرحلة أمريكية جديدة فى عملية السلام بالشرق الأوسط يمكن تسميتها بمرحلة فرض الإملاءات، وأن على كل من يريد السلام أن يوافق على ما سوف تفرضه أمريكا، وأن كل من يعارض ذلك سيعتبر من قوى الإرهاب والتطرف المتوجب على القيادات السياسية فى المنطقة طردها ومحاربتها، فالاعتدال يعنى قبول صفقة فرض الإملاءات التى تعتبر تبنيا لمواقف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بفرض الأمر الواقع من خلال الاستيطان، ومصادرة الأراضى وطرد السكان والتطهير العرقى وهدم البيوت والاعتقالات والحصار والإغلاق. بدأ الرئيس ترامب من خلال الإعلان عن القدس عاصمة لإسرائيل فى مرحلة فرض الحل على الفلسطينيين والعرب، وبشكل تدريجى فرض إملاءات الحكومة الإسرائيلية حول جميع قضايا الوضع النهائي، تحت ذريعة أن كل جهود الإدارات الأمريكية السابقة قد تم رفضها فلسطينيا، ولن تقوم أى قيادة فلسطينية مستقبلية بقبول ما توافق عليه إسرائيل، لذلك فإن إدارة الرئيس ترامب تقول إنها لن تكرر أخطاء ما قامت به الإدارات الأمريكية السابقة، وأنها سوف تفرض صفقة تاريخية بدأتها بأن أعلنت أن القدس عاصمة لإسرائيل، وأنها سوف تحمّل الجانب الذى يرفض ذلك المسؤولية وتفرض عليه دفع الثمن، فهى إدارة رفضت حتى الإعلان عن تأييد خيار الدولتين على حدود 1967، ولم تقم بإدانة الاستيطان، بل كانت ممارسات السفير الأمريكى «ديفيد فريدمان» ولقاءاته وزياراته لقادة المستوطنين والمستوطنات تشرع الاستيطان، حتى وصلت الأمور إلى طلب فريدمان رسميا باسقاط اصطلاح (محتلة) عند الحديث عن الأراضى الفلسطينية المحتلة 1967 من قبل وزارة الخارجية الأمريكية. لقد تابعنا تهديد الرئيس ترامب وسفيرة بلاده فى الاممالمتحدة لكل دولة تصوت ضدهم بفرض العقوبات ووقف المساعدات كجزء من استراتيجية إجبار دول العالم على قبول سياسة فرض الحلول والإملاءات، وقبل ذلك مارست إدارة الرئيس ترامب ضغوطا كبيرة على القيادة الفلسطينية لترهيبها وإجبارها على قبول الحلول المفروضة وذلك عبر عدة خطوات قامت باتخاذها، شملت تأكيد تصنيف منظمة التحرير الفلسطينية منظمة إرهابية عملا بقانون الكونجرس 1987، وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية فى واشنطن، وعدم تمديد إبقائه مفتوحا برسالة خطية من وزارة الخارجية الأمريكية يوم 17/11/2017، إضافة إلى تخاذه قرارا بقطع المساعدات عن الشعب الفلسطينى (مشروع تايلور / فورس) فى مارس عام 2018، والذى يتعلق بخصم قيمة مخصصات الأسرى والشهداء والجرحى من المعونات المقدمة للفلسطينيين، كما تم العمل على تمرير قانون يجّرم مقاطعة إسرئيل، وقانون محاسبة الفلسطينيين، والذى فتح الباب على تشريع سلسلة من العقوبات على الفلسطينيين والمنظومة الدولية، فضلا عن عدم التمسك بمواقف الإدارات السابقة حول حل الدولتين على حدود 1967، والتهديد بقطع جميع المساعدات عن الشعب الفلسطينى ما لم يقبلوا العودة للمفاوضات بالشروط الأمريكية، كما أعلن الرئيس ترامب فى دافوس يوم 25/1/2018 قطع نحو 304 ملايين دولار عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين U.N.R.WA فى ضوء ما سبق فمن المتوقع تكثيف الإدارة الأمريكية ضغوطها على القيادة الفلسطينية للقبول بالمبادرة الأمريكية للسلام، مع إمكانية استغلال تراجع الحالة الصحية للرئيس الفلسطينى لتشجيع بعض القيادات الشابة على التنافس فى معركة الخلافة، فى محاولة سواء للتأثير فى حدود مواقف الرئيس محمود عباس، أو التحريض على تغيير القيادة الفلسطينية، وقطع المساعدات عنها لإضعافها، واستغلال تهور الأوضاع الاقتصادية فى قطاع غزة للتباكى على الوضع الانسانى لسكان القطاع. ومن ثم تعزيز استمرار الانقسام باعتباره الثغرة الرئيسية لكل من ترامب ونيتانياهو للاستمرار فى تدمير خيار الدولتين وتصفية المشروع الوطنى الفلسطيني، واستبداله بطرح مشاريع اقتصادية لإبقاء الأوضاع على ما هى عليه فى قطاع غزة. لمزيد من مقالات لواء محمد عبد المقصود