حزينا ويائسا رحل الفيلسوف اليوناني أفلاطون من أثينا إلي المنفي الاختياري. فقد أعدموا استاذه أرسطو بتجرع السم. وكانت تهمته جائرة وزائفة وهي تحريضه للشباب ضد التقاليد السائدة, في حين أنه كان يتحاور معهم بقصد تنويرهم. وهام أفلاطون علي وجهه طوال اثني عشر عاما, زار في خلالها بلادا شتي منها مصر وإيطاليا. وكانت تنتظره مفاجأة عندما وصل إلي جنوب إيطاليا فقد ارسل إليه حاكم سيرا قوصة, بصقلية, يدعوه إلي زيارته. وادعي أنه عاشق للفلسفة, ومولع بالأدب والفنون. ولبي أفلاطون الدعوة. وظن أن في وسعه أن يطبق أفكاره عن المدينة الفاضلة. لكنه كان واهما. فسرعان ما ضاق الحاكم الطاغية بأفكاره. واستبد به الغضب منه, فأوعز بقتله أو بيعه في سوق العبيد. واستقر الأمر علي عرضه للبيع في سوق العبيد. وتعرف عليه رجل كان يقدر علمه وفلسفته وبادر بشرائه وإطلاق سراحه. وبرغم هذه المحنة المروعة التي تعرض لها أفلاطون, فإن أشواق الانسان للمدينة الفاضلة لم يفتر أو يتلاش. وظل يتوهج بالرؤي من حين إلي آخر. وهذا ما عبر عنه البريطاني السير توماس مور في كتابه يوتوبيا(1516). وهذا ما أفصح عنه الفيلسوف الإسلامي أبونصر الفارابي في كتابه أهل المدينة الفاضلة, الذي انتهي من تأليفه عام337 ه وظهرت إحدي طبعاته بالقاهرة عام1906. وهذا ما يتجلي في رواية رحلة ابن فطومة التي نشرها الروائي العبقري نجيب محفوظ عام1983. ذلك أن جوهر روايات محفوظ يتمثل في فضح القبح السياسي والاجتماعي توطئة لتمهيد السبيل نحو وطن جميل. وهذه هي المهمة المقدسة للابداع الأدبي والفن الرفيع. ذلك أن المبدعين حقا وصدقا يحرصون كل الحرص علي أن ينأي أدبهم عن الشعارات الغوائية والمضللة. {{{ وكم كان العم نجيب رائعا وفطنا وهو يكتب رحلة ابن فطومة. ذلك أنه لم يكن سياسيا أو فيلسوفا, وإن كان كذلك. وانما كان روائيا عبقريا, تنم أحداث رواية عن رؤيته. ولكن بنعومة أدبية آثره. وكان بطل رواية ابناء وحيدا للسيدة فطومة. وقد خشت عليه منذ طفولته من اخوته الكبار غير الأشقاء. واستأجرت مدرسا لتعليمه في المنزل. وكان لمعلمه الشيخ مغاغة الفضل في إثارة اهتمامه بالرحلات. فقد حدثه عن دار الجيل. ووصفها بأنها معجزة.. وكأنها الكمال. ولكنها كانت سرا مغلقا فلم يزرها أحد من قبل وكل ما يتردد عنها كأنه أمنيات. وقرر الفتي قنديل أن دار الجيل هي القصد والمنتهي من رحلته. وبدأ رحلة بزيارة دار المشرق. وأزعجه أن اقطاعيين طغاة يتحكمون فيها. ولم تكن دار الحيرة أحسن حالا. وتعرض فيها لمكيدة. وأمضي في سجنها عشرين عاما. فلما أطلقوا سراحه رحل إلي دار الحلبة, أو دار الحرية. وراقت له إلا قليلا. وبدت كأنها مجتمع ليبرالي رأسمالي. وعندما برحها إلي دار الأمان بدت وكأنها مجتمع الشيوعية والشمولية. وأعرب عن توجسه منها. ولم يخف اعجابه بالمساواة والنظام والجدية, وأن كان افتقارها للحرية أثار قلقه. واقترب الرحالة المصري من محطته الأخيرة دار الغروب ومنها يعبر إلي مشارف دار الجيل. وعندما بدأ الرحلة الكبري إلي دار الكمال والاكتمال انقطعت أخباره. ولكن يبقي الحلم, وإن ظل بعيد المنال.. ويتوهج دوما الشوق إلي وطن أجمل.. وعلي وهج هذا الشوق يمضي الثوار والحالمون والنبلاء في دروب الدنيا. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي