من بين الشخصيات المؤثرة فى تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ومسيرتها، يبرز اسم الأرشيدياكون (رئيس الشمامسة) حبيب جرجس (1876-1951م)، الذى يُعد أحد رواد الإصلاح الكنسى فى العصر الحديث، بفضل ما جاهد وقدم وبذل وأعطى فى مجالات كنسية كثيرة ، شملت التعليم والوعظ والتأليف، فقد عاش حياته وكرسها مُحبًا للكنيسة ومُعلمًا لأجيال عديدة من خدامها وشبابها، ممن صاروا قادة للكنيسة فيما بعد. التحق حبيب بالمدرسة الإكليريكية عند تأسيسها سنة 1893، وتولى إدارتها (1918-1951) خلفًا للأستاذ يوسف منقريوس، فاهتم بتطوير مبانيها وبرامجها الدراسية، ومستوى أساتذتها، وإحضار أكفأ المدرسين، وإضافة المواد الجديدة اللازمة لإعداد الراعى الجدير بمسئولية الرعاية، كما أنشأ القسم الجامعى، الذى بدأ نهاريًا عام 1942، ثم افتتح القسم المسائى الجامعى عام 1945. وللأستاذ حبيب جرجس عدة مؤلفات، دينية وتربوية وتعليمية وتاريخية ولاهوتية ودراسية، شملت العقيدة والتاريخ والوعظ والأناشيد والتأملات الروحية، فكانت مؤلفاته إضافة حقيقية للمكتبة المسيحية والقبطية، لازالت تتداول إلى اليوم بين أيدى القراء، حيث سدت مؤلفاته فراغًا كبيرًا كانت الكنيسة المصرية وكان المواطنون المسيحيون (الأقباط) فى أمس الحاجة إليها، كما مثلت مؤلفاته نواة مادة الدين المسيحى فى المدارس. آمن الأستاذ حبيب جرجس بأهمية الصحافة كوسيلة لنشر الثقافة والمعرفة وتهذيب الجمهور، بتقديم المبادئ الإنسانية والقيم الراقية، فأصدر مجلة (الكرمة) التى استمرت فى الصدور 17 سنة غير متصلة (1904-1912م) و(1923-1931م)، وعلى صفحاتها ظهرت أقلام عدد كبير من أعلام عصرها، فكانت (الكرمة) واحدة من المجلات التى تميزت معالجتها للموضوعات والقضايا بالموسوعية التى تهدف إلى التأسيس والتأصيل. ثم نأتى إلى خدمته الجليلة، ونقصد بها خدمة مدارس الأحد التى أسسها فى نحو عام 1900م، حين شعر بحاجة الكنيسة إلى العناية بتربية النشء تربية فاضلة، وتنشئتهم تنشئةً صالحةً تقوم على معرفة الواجبات الدينية والأمور الروحية والقيم الإيجابية، حيث أخذت مدارس الأحد على عاتقها إعداد الطفل: عقليًا وجسديًا ونفسيًا وروحيًا واجتماعيًا، مع تأكيد الانتماء الكنسى والوطنى فى نفوس الأطفال، وشكلت مؤلفات الأستاذ حبيب جرجس المناهج الأولى التى اعتمدت عليها مدارس الأحد، فقد تمثلت أغراض الخدمة فى: تعويد الأولاد والبنات حفظ يوم الأحد، ومواظبتهم على الحضور فى الكنيسة لسماع القداس، واشتراكهم فى العبادة والأسرار المقدسة شركة تامة، للنمو فى النعمة وفى محبة الكنيسة؛ وتعليمهم حقائق الإيمان بحسب العقيدة الأرثوذكسية وجعلهم قوة حية نافعة للكنيسة، والعناية بخلاص أرواحهم؛ تلقينهم تاريخ كنيستهم القبطية وعقائدهم وتراجم حياة مشهورى رجالها؛ تعويدهم الفضائل والأخلاق المسيحية، وتحذيرهم من الوقوع فى الخطايا المنتشرة، وإعدادهم ليكونوا رجالًا صالحين نافعين لكنيستهم ووطنهم؛ العناية بصحتهم الروحية والجسدية. وكان الأستاذ حبيب جرجس يقول»كن عضوًا فى مدرسة أحد، لتكون من أبناء الله الذين يعرفون وصاياه»، مدارس الأحد تُربى فى الأولاد والبنات الآداب الصحيحة، والأخلاق الكريمة، وتهديهم إلى محبة الله، وتقيهم شر العادات الرديئة. وترشدهم إلى المواظبة على حضور الكنيسة، وتُربى فيهم الاجتهاد والنشاط. وتعلمهم الطاعة للوالدين والمعلمين والمرشدين، وتعرفهم أن يعاملوا الناس معاملة مسيحية صالحة، وتهذب خصالهم، وتُبين لهم كيف يتممون واجباتهم لله وللناس، وتهيئ الشبان ليصبحوا أتقياءً فضلاء. ورجالًا كاملين. والبنات ليصبحن سيدات فضليات». هكذا كان الأرشيدياكون حبيب جرجس كرمةً مشتهاةً، عرف قيمته وأدركها كل من تعامل معه أو تتلمذ على يديه، أو استمع إلى عظاته أو قرأ مؤلفاته ومقالاته، فقد كان شخصية رائدة ومؤسسة أثرت فى مسيرة الكنيسة ، ونهضتها طوال سنوات القرن العشرين، بل إن لتلك الشخصية تأثيرها الحى والفعال إلى اليوم.