إذا ما تحدث أحد عن الجمال والفن والعمارة فى حوض البحر المتوسط، فغالباً نجول بخيالاتنا ما بين معابد أثينا وقصور الإيطاليين وحدائق الفرنسيين، لكن قد لا يتبادر إلى أذهاننا أن هناك مقابر رائعة البنيان عليها تماثيل ولوحات مبهرة تشكل معلما حضاريا يحكى جانبا من قصة الجالية اليونانية فى الإسكندرية. إنها مقابر «السبع ملل» التى منحها محمد على باشا قطعا من الأراضى لإقامة مقابر للموتى من جالياتهم، حيث كانوا يعيشون كجزء أصيل من المجتمع السكندرى «الكوزموبولتي» المتناغم بأطيافه المختلفة على أرضها التى ضمتهم أمواتا بعدما حملتهم أحياءً. ومع أنها مقابر للموتى إلا أن شواهدها وتماثيلها تكاد تنطق بحكايات ساكنيها الأبديين من الأثرياء والتجار والفنانين والأدباء اليونانيين الذين عاشوا فى الإسكندرية منذ عام 1843 وشيدوا المصانع واحترفوا التجارة وانخرطوا فى نسيج المجتمع حتى أصبحوا جزءاً لا ينفصم عنه، هؤلاء أبوا إلا أن يتركوا خلفهم فصلا رائعا يحكى عن حياتهم فى الإسكندرية. عن هذه المقابر يقول الأثرى أحمد عبد الفتاح: إنها تشبه كتابا مفتوحا فى الهواء الطلق تأخذنا صفحاته ما بين الفن والتجارة والأدب. ومن بين هذه المقابر المقبرة الرخامية البديعة التى تحوى رفات الفتاة الحسناء ذات التسعة عشر عاماً ابنة أحد أثرياء اليونانيين وتاجر الخشب المشهور المدعو «زورفاداكي» وعلى بابها رسم لملاك لحراستها وهو يضع إصبعه على شفتيه وكأنه يدعو زائريها لالتزام الصمت. كذلك المقبرة الرائعة التى يعلوها تمثال رخامى بديع للسيدة العذراء ويرقد تحتها جثمان الثرى اليونانى «جون أنطونيادس» الذى وهب قصره وحدائقه لبلدية الإسكندرية بعد وفاته، بينما يجاوره قبر «قسطنطين كفافيس» شاعر الإسكندرية اليونانى الكبير الذى يزوره الآلاف من عشاق شعره كل عام، كذلك بجانبه قبر «كوتسيكا» والذى كان أثرى أثرياء اليونانيين ومؤسس المستشفى اليونانى الذى صار حالياً «مستشفى جمال عبد الناصر» وهنا أيضا قبر «سلفاجو» أحد مؤسسى البنك الأهلى المصرى وكذلك مقبرة عائلة «انسطاسي» وهى العائلة التى تحمل بعض شوارع الإسكندرية اسمها إلى الاّن. وآخرون كُثر من اليونانيين يرقدون تحت أرض الإسكندرية فى هذه المقابر التى بدت كمتحف مفتوح يلقى زواره سلاماً على كل من بنى حجراً فى بيت أو مصنع أو منشأة فى عروس البحر.
