اجتمع ملك الصراصير مع زوجته الملكة والكاهن والعالم، لمناقشة مشكلة الوزير، الذى فجع بوفاة نجله بسبب هجوم جيوش النمل عليه، عندما سقط على ظهره، وحملوه إلى ديارهم، كصيد ثمين يكفى غذاءهم لشهور طويل، وكانت مشكلة الملك الصرصار، وأعضاء الاجتماع الصراصير بالطبع، كيف نجمع الصراصير الأخري، لإيجاد حل لخطر النمل، الذى يهدد الجميع، إلا أن الصراصير ليست كالنمل، قادرة على التنظيم والإدارة والعمل الجماعي، فكل صرصار له عالمه الخاص، وما الملك إلا ملك على نفسه، أما فريق عمله من الوزير والكاهن والعالم لا يلبث كل منهم من أن يهدد بالاستقالة، لأنه يعمل على سبيل التطوع، وليس لديه أطماع فى مناصب أو رتب على مجتمع من الصراصير، لا يعيرهم أى التفات، وعاجزين عن مجرد الاجتماع لمناقشة مشكلة مصيرية، فلا سلطان لأحد على أحد! حرية مطلقة!. حدد المجتمعون المشكلة فى كيفية جمع الصراصير، التى لم تتعود على الاجتماع، فطلبوا من العالم البحث عن حل باعتباره خليقا بإيجاد الحلول، فقال إن الصراصير لا تجتمع إلا على الطعام، وأنه رأى جمعا من الصراصير ذات مرة متحلقين حول قطعة طماطم، فلا يجتمع الصراصير وغير الصراصير إلا على الطعام، لكن المشكلة من أين يأتون بالطعام، الذى يغرى الصراصير بالتنظيم فى اجتماع واحد! فطلبوا من الكاهن إيجاد حل آخر لمشكلة النمل، فقال إنه ليس لديه إلا القرابين والصلاة والدعاء!. أفاد العالم أن للنمل أيضا وزيرا للتموين، قادرا على تخزين كل هذا الطعام، لاستخدامه عند الحاجة، فالنمل كائنات لا تعرف الكسل وتتمتع بالنظام، والعمل المتقن وتوزيع الأدوار، إلا إنها ليست فى رقى الصراصير، التى لا تطمع فى أحد، وكل همها فى الحياة المعرفة، فلا يهمها الطعام وتخزينه، أو الحرب من أجله، فهى محبة للاكتشاف، فتتلمس الطعام بشواربها ولا تأكله، لأن همها المعرفة، فهم أرقى المخلوقات، التى تهتم بالأفكار الكبري، ومشكلتها فى الحياة هى المخلوقات المنحطة، كالنمل الذى لا يهمه إلا الطعام وخزينه، ولا تعرف تمدن الصراصير، فكل مخلوق محكوم ببيئته وظروفه!! فليس كل مخلوق خليقا بحضارة الصراصير!. لقد سبق وقرأت مسرحية «مصير صرصار» لكاتبنا الكبير (توفيق الحكيم) خلال دراستى الجامعية، وقمت بتحليلها دراميا، ولكن كان أكثر ما شدنى لها، الروح الفكاهية التى تتمتع بها، ولكن عندما قرأتها أخيرا وجدت فيها ما لم أدركه فى السابق، من أفكار عميقة تم شرحها بسلاسة وعبقرية، تليق بأحد روادنا العظام، الذين نفتقدهم كلما رأيت الناس تتعلق بنماذج فارغة، لا يسوغ وجودها، وذلك الفراغ الذى يزيده ويشيطنه لمعانى المقولات الجوفاء الخالية من فكر ومضمون فلسفى يمكن التعويل عليه. توصل الملك وهيئة الحكم إلى أن الاجتماع المجدى هو «المصالح» فلا تجتمع الصراصير إلا على الطعام، فلا قيمة للاجتماع على أفكار أيديولوجية وشعارات متغيرة، تسبب الشقاق والانشقاق، فالمصلحة العامة خير ضامن للتضامن ولكن عندما يفشل المجتمع فى مواجهة الأخطار الحقيقية، أو يحقق مصالحه المشتركة، تظهر كالعادة الأوهام.. أوهام التفوق، فيتصور عالم الصراصير أنهم خير جنس على الأرض، يهتم بالقضايا المعرفية الكبري، ويتعالى عن المصالح الحياتية التافهة الممكنة فى سبيل إصلاح الكون!. إن الكفاح والجهاد الحقيقى هو فهم فلسفة العصر، والأخذ بأسبابها، من فلسفة العلوم، والتطور مع تطورها، فقيم التقدم تنبع من الحاضر، ولا بأس إن كان فى التاريخ ما يؤيدها، فالكيان الحضارى الغربى تشكل من استقرار النظام الرأسمالى الاقتصادى القوى الذى رسم سماته الحالية، ثم ينتقى لها تاريخا يؤيدها، وهو اتجاه مضاد لمن يحلمون بهدم الحاضر والعودة لنقطة تاريخية مضيئة تتناقلها الروايات من غياهب التاريخ. كفاحنا يبدأ من القدرة على التعاون و العمل الجماعي، لندخل فى منظومة الشعوب المنتجة، وما يحتاجه ذلك من نظم علمية ومسئولية جماعية، بأن يتحمل كل فرد مسئوليته، مثلما يطالب بحريته، ويدرك أن حريته الفردية بلا قيمة دون تعاون مشترك، ومجتمع مستقر، يلزمه الخروج من صراعات القومية والأيديولوجيا والعولمة والأصولية... هذا بعض ما استنتجته من رواية المفكر الكبير مؤخرا، وربما لو قرأتها مرة أخري، لخرجت بدلالات جديدة، فتلك سمة الفكر المستقبلى المحقق لذاته، كما يرى المفكر الأمريكى (إيرنست ناجل) فى التنبؤ المحقق لنفسه! فما كان يفكر فيه لا ينطبق إلا على واقعنا الآن.. فأين المصير؟! لمزيد من مقالات ◀ وفاء محمود