خلق الله الشعر ثم خلق بيرم وأراد له أن يكون شاعرا .. فكان. أثقلت المنافى شاعرنا.. وصقلته, طاردته البلاد وأنكرته لسنوات تسع بداية من 25 أغسطس 1920، مفارقا الأهل والوطن حتى أصابه اليأس.. إنه بيرم التونسى الذى قال: الأوله مصر.. و ف مصر قالوا تونسى و نفونى و التانيه تونس.. و فيها الأهل جحدونى و التالته باريس.. و ف باريس جهلونى لم تكن تونس بلدك يوما يا بيرم، حتى تحزن إن هى أنكرتك، وما كان هذا اللقب اللصيق باسمك.. «التونسى» ، إلا لجدك الذى هاجر منها إلى الإسكندرية فى ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ليظل اللقب قرين أبنائه والحفدة حتى طالك، فاكتويت بناره. كان لقب «التونسى» حجة النظام فى إبعاد بيرم عن بلده التى لم يعرف غيرها.. مصر ، وذلك بعدما أصدر مجلته اللاذعة «المسلة» فى عام 1919 والتى أغلقها النظام بعد العدد الثالث عشر، ليعاود إصدارها من جديد باسم أكثر سخرية و«إيلاما» وهو «الخازوق», لكن النظام لم يحتمل مقالات بيرم أو قصائده التى كتبها ضد الفساد السياسى والاجتماعى، بل وامتد نقده إلى الأسرة المالكة ذاتها فى عدة قصائد, لعل أشهرها «القرع الملوكى»، و «البامية السلطانى» التى شكك فيها فى نسب فاروق شخصيا، وبلغ من الجرأة حتى هاجم «فؤاد» ذاته، بعد تنصيبه من الإنجليز ملكا على مصر.. فقال فى قصيدة «مجرم ودون»: ولما عدمنا بمصر الملوك.. جابوك الإنجليز يا فؤاد قعدوك تمثل على العرش دور الملوك.. وفين يلقوا مجرم زيك ودون ما نابك إلاعرش ياتيس التيوس.. لا مصر استقلت ولا يحزنون. كانت كلمات بيرم قنبلة فى وجه كل ظالم ودرعا يدافع عن كل مظلوم.. ووردة يتبادلها المحبون .. ويدا حانية تمسح دمع الحزانى وتواسيهم، كل ذلك كان ممزوجا بذكاء وخفة دم أولاد البلد الذين استمد منهم أخلاقهم وشهامتهم ، بعدما تربى وعاش بينهم فى أحياء السيالة والأنفوشى بالأسكندرية التى ولد بها فى 1893. بدأت معرفة الجماهير بشعر بيرم - الذى مرت ذكرى ميلاده ال 125 فى مارس الماضى – عبر قصيدته «بائع الفجل»، والمشهورة باسم «المجلس البلدى»، والتى هاجم فيها تدخلات موظفى المجلس وسطوتهم على التجار بعد أن ذاق هو شخصيا مرارة تلك السطوة حين حاول أن يفتح محلا تجاريا بعد وفاة أبيه، فيقول فيها: قد أوقع القلبَ فى الأشجانِ والكمدِ هوى حبيبٍ يُسمّى المجلس البلدى ما شرّد النومَ عن جفنى سوي طيف الخيال، خيال المجلس البلدى .. حتى يقول: كأنّ أمى أبلّ الله تربتها أوصت فقالت: أخوك المجلس البلدى أخشى الزواج، فإنْ يومُ الزواج أتى يبغى عروسى صديقى المجلس البلدى وربما وهب الرحمن لى ولدًا فى بطنها يدّعيه المجلس البلدى يا بائع الفجل بالمليم واحدةً كم للعيال؟ وكم للمجلس البلدى؟ لم تكن وفاة الأب هى الصدمة الأولى فى حياة بيرم التى شكلتها سلسلة من الآلام، بدأت بوفاة شقيقته وهو فى الرابعة من عمره، ثم زواج أبيه من أخرى، ثم سرقة ميراثه وميراث أمه على يد الزوجة الجديدة و أبناء عمومته ، ثم زواج الأم.. فوفاتها، كل ذلك جعل بيرم يدخل معترك الحياة مبكرا, ويلتحم بطبقات المجتمع وطوائفه المختلفة ، ليقدم لنا قصائده التى تمثل نموذجا غير مسبوق للنقد الاجتماعى ، مصحوبا بخفة دم، وذكاء نادر فى التقاط التناقضات، يتجلى بأبهى صوره فى «السيد ومراته فى باريس» الذى يقول فيه: حاتجن ياريت ياخوانا مارحتش لندن ولا باريز دى بلاد تمدين ونضافه وزوق ولطافه وحاجه تغيظ مالاقيتش جدع متعافى وحافى وماشى يقشر خص ولا شحط مشمرخ افندى معاه عود خلفه ونازل مص ..إلى آخر ما يرصده من سلوكيات غير حضارية فى المجتمع المصرى، ولم يكن شعر بيرم العاطفى أقل روعة من أشعاره الاجتماعية والسياسية ، وإذا كان سيد درويش هو من خلد الأخيرة موسيقيا، حتى بلغ القمة مع بيرم فى أوبريت شهر زاد الذى يحوى أغنيتهما الأشهر: أنا المصرى كريم العنصرين بنيت المجد بين الأهرمين جدودى أنشأوا العلم العجيب ومجري النيل فى الوادى الخصيب فإن الشيخ زكريا أحمد كان له النصيب الأكبر فى التعبير موسيقيا عن أشعار بيرم وأغانيه العاطفية ، ليشكلا معا ثنائيا عبقريا ، ساهم فى صناعة مجد أم كلثوم وترسيخ موهبتها التى بلغت ذروتها على يديهما فى أربعينيات القرن الماضى بأغنياتها الخالدة «الآهات»، «أنا فى انتظارك»، «حلم»، «الأولة فى الغرام» التى تعد أفضل تعبير عن بكائيات بيرم بما تحمله من نبرة حزن وشجن ربما لم يصل إليها غيره ، حيث يقول فيها: حطيت على القلب إيدى وأنا بأودع وحيدى وأقول يا عين اسعفينى وبالدمع جودى ..... من يوم ما سافر حبيبى وأنا باداوى جروحى أتارى فى يوم وداعه ودعت عقلى وروحى ليودع شعر العامية بعض (عقله.. وروحه) بوفاة بيرم فى عام 1961 بعد عام واحد من حصوله على الجنسية المصرية التى كان يعتبرها آخر أمانيه.