بعض نواحى الصعيد يقلبون الجيم المعطشة دالا، سواء كانت الجيم فى أول الكلمة أم فى وسطها وآخرها، ويقلبون القاف جيمًا قاهرية أو صنعانية- من صنعاء- وهناك النكتة المشهورة التى أطلقت فى الخمسينيات حول هذا الأمر، أما نواحينا فى ريف الغربيةوكفر الشيخ والبحيرة فتقلب الجيم الأخيرة دالا، والقاف جيمًا قاهرية وأحيانا لا ينطق الحرف الأخير، وعندنا فى مركز بسيون ننطق اسم قريتنا جناج «جناد»، وتنطق نجريج بلد البطل محمد صلاح «نجريد».. وتنطق القضابة «الجضابة»- جيم قاهرية- أما النكتة التى تخصني، فهى نطق جيم «البيجامة» بغير تعطيش، لأجل أن أنتسب لعالم البندر، بعدما سخر منى زملائى فى المدرسة الابتدائية بقويسنا منوفية، إذ هم ينطقون الجيم غير معطشة وينطقون القاف ألفا فتصبح أقول «أأول»، كنت أنطقها «أجول»، وكانت جدتى لأبى تسألنى ونحن عندها فى إجازة نصف السنة أو إجازة الصيف: «هتسافروا جويسكم إمتى؟» أى «متى ستسافرون قويسكم؟» لأنها ظنت أن «نا» فى نهاية قويسنا ضمير الجماعة! وكم عانيت بعدما دخلت المدرسة عام 1950 ومعى زميلى فى الدراسة المرحوم إبراهيم ابن عمى فى مدرسة قويسنا الابتدائية رقم واحد من وصفنا بالفلاحين والصعايدة، لأن لساننا لم يكن تم تدريبه على الجيم القاهرية وعلى قلب القاف ألفا! وألتمس العذر للمقدمة التى استطالت لأننى لم أكتب من قبل عن الكابتن محمد صلاح نجم أوروبا، رغم أننا بلديات من المركز نفسه.. بسيون.. هو من نجريد وأنا من جناد.. أى نجريج وجناج!، ولا أكتب لأتباهى فقط بالبطل على قاعدة «الجرعة- أى القرعة- تتباهى بشعر بنت أختها«، ولكن لأفتح باب الكلام عن النهوض من العمق الاجتماعى بعد أن ثبت أن التركيز فقط على القلب القاهرى لم يلفح فى إنبات وإثمار أى مشروع للنهضة منذ محمد على حتى الآن، وثبت عبر تجارب شعوب أخرى كالشعب الإسبانى مثلا أن التوجه للعمق الاجتماعى فى الريف للبحث عن المواهب والتواصل معها وبينها، بما يخلق شبكة من نقاط الضوء التى ما تلبث حتى تضيء ظلمة الجهل والتخلف فى ربوع الوطن كله، هو الأجدى. إن شهرة البطل محمد صلاح تكشف عن أمرين، أولهما أن النبوغ والتميز موجودان بالفعل فى أعماق مصر المحروسة.. هناك فى الغيطان والأجران وعلى المصاطب وفى عز البرد وذروة الشرد والأنيميا والأمراض المتوطنة وضعف الإمكانات وسوء الخدمات.. وخيانة النخبة! وثانيهما أنه بمجرد أن يجد هذا النبوغ والتميز فرصة لينطلق فإنه يكون مثل نبات الجهنمية الذى يتمرد على كل الظروف بما فيها قانون الجاذبية الأرضية.. فتمتد أغصانه محملة بأزاهيره فى الهواء لمسافات بعيدة دون أن تنكسر أو أن تنحني، ولكم أجلس إلى الآن تحت أذرع الجهنمية التى تظلل المطرح وأتعجب: لم لا يتم العمل على الاستعانة بجينات هذا النبات المتغلب على فقر التربة وشح المياه وعدوان الآفات والقوارض وغيرها! لقد ظل مركز بسيون لزمن طويل هو منفى الغربية، ومن قبل كانت المدينة نفسها تابعة لكفر الزيات، وكانت قرى المركز موزعة بين مركز قلين وبين مركز كفر الزيات، وكان الويل كل الويل لمن يسافر عبر طريق طنطا- دسوق المار بمحلة مرحوم وبرما ثم عدة قرى إلى بسيون ومنها إلى القضابة وصا الحجر وجناج، لتبدأ محافظة كفر الشيخ بمنية جناج ومنها لمحلة دياي، ثم الصافية وكفر مجر ومحلة أبو على وكفر إبراهيم إلى دسوق! طريق مفرد مترب يتحول ترابه إلى أعماق من الوحل السميك والروبة فى الشتاء، جراء المطر وجراء غياب المجارى فى كل ذلك الخط، ورغم وجود عائلات مما تسمى عادة بالكبيرة فى كثير من القرى على طول الخط، حيث فى مركز بسيون وحده- وعلى سبيل المثال وليس الحصر- نجد أسماء المراسى وعيد والقصاص وأبو حمر وحتاتة وفايد والشاذلى والسمدونى ورامون وعبد اللاه وطبعا الجمال ولكن لم يحظ هذا المركز بما يليق بوجود مئات آلاف البشر فى المدينة والقرى الأخرى، وها هو اسم بسيون يملأ الآفاق لأن ابن نجريد النابغ المتميز شق بجهده وموهبته كل حجب التجهيل والتغييب! وأعود للنهوض من الأعماق والأطراف جنبا إلى جنب النهوض من القلب أو وصولا للنهوض الشامل، فأذكر أن ثمة بذرة جنينية كانت قد بذرت فى الخمسينيات وشهدت نموًا ملحوظًا فى الستينيات وهى بذرة الوحدات الريفية والوحدات المجمعة وما ارتبط بها من صروح أخرى كالساحات الشعبية ومراكز الشباب ومراكز الثقافة الجماهيرية.. وكانت جهود محو الأمية.. والرعاية الطبية البشرية والأخرى البيطرية والإرشاد الزراعى وملاعب الكرة والمسارح البدائية على دكك النوارج والكنبات البلدي، كلها جهود متممة لبعضها البعض، وأذكر أننى عشت فى طفولتى قبيل منتصف الخمسينيات إضاءة حوارى جناد جناج قريتنا بالفوانيس المعلقة على النواصى وتعمل بالكيروسين الجاز وذهب أبناء عمومتى وبقية الشباب الفلاحين إلى مراكز محو الأميةذ كانوا ينطقونها فى البداية نحو الأمية!ذ وقبلها تم ردم المستنقع الرهيب- البركة التى كانت تحيط بالقرية وتتخلل بعض شوارعها، وانطلق الشباب إلى التعليم العام بعد أن كان التعليم مقصورًا على المعاهد الأزهرية، ومن العام إلى الجامعات ليصبح من ذلك الشباب وكلاء نيابة وقضاة ومستشارون ومحامون، ودكتوراهات فى مختلف الفروع العلمية التجريبية والنظرية.. وهلم جرا.. غير أن قلة البخت التى كثيرًا ما تصيب المحروسة فى مشاريعها التنموية النهضوية حلّت فى مرحلة من المراحل وأصبح المعيار هو «قل لى كم فى جيبك من مال وكم لديك من علاقات فاسدة.. أقل لك كما تساوى وإلى أين ستصل»! لقد نبغ البطل محمد صلاح فى الكرة ومن عمق أعماق المحلية انطلق كالشهاب إلى قمة العالمية.. ومؤكد أن هناك نابغين متميزين بغير حصر فى عمق مصر الريفى وأطرافها وفى غير مجال الرياضة البدنية، ويبقى فقط أن يتم البحث والتواصل وإقامة شبكة التنوير لتشع مصر ضوءها مجددًا. لمزيد من مقالات ◀ أحمد الجمال