اليوم نحتفل بنهاية الشتاء، ونتأهب لمعانقة الربيع الذى هو أجمل فصول السنة. يذكرنى اليوم بسنوات عمرى الأولى فى قريتى الضهرية مركز إيتاى البارود بالبحيرة. كنا نسهر حتى قرب الفجر. نستمع إلى الحفل السنوى المذاع على الهواء ضمن برنامج: أضواء المدينة. المرتبط بجلال معوض، مذيعه وصاحب الصوت الذى كان يُعد جزءاً من الاحتفال. الوصلة الأخيرة لفريد الأطرش. يغنى بعض الأغانى القصيرة ليُمهِّد لأغنية السهرة يغنيها ويختم بها وتستغرق أضعاف ما يمكن أن يقدمه على مدى الليلة. وغناء الزمان الأخضر الجميل الذى مضى ولم يترك سوى اجترار ذكرياته. كأنه الجنة المفقودة كانت مشاركة الجمهور الحية تُشكل متعتنا الكبيرة عند الاستماع للغناء. الأغنية تعود لسنة 1949، من كلمات الشاعر: مأمون الشناوي، ولحنها علاوة على غنائها فريد الأطرش. شم النسيم يتساوى فيه الأغنياء والفقراء. ليس مثل عيد «الفطر» أو عيد «الأضحى» يتطلب الاحتفال به أموالاً. الأول لعمل الكعك. والثانى لذبح الأضحية التى يتداخل فيها البُعد الدينى الإيمانى. والقدرة المالية. مما يجعل العيدين فيهما بعض التميز الطبقي. شم النسيم يكفى أن يكون عندك سردين أو فسيخ أو ملوحة. ومعها لوازمها من البيض. والألوان المتاحة. والبصل الأخضر والخس والخبز المصنوع صباحاً. كانت قريتنا محصورة بين فرع رشيد وترعة ساحل مرقص. وفرع رشيد أحد فرعى النيل. هنا تتفاوت الأحوال حسب القدرات المالية. من يستطيع أن يستقل صندلاً أو مركباً أو سفينة. ويعبر للناحية الأخري. حيث محافظة الغربية يفعل. ومن لا يستطيع أمامه أحد أمرين. إما أن يعبر نهر النيل سابحاً مُستعرضاً قدرته على العوم التى لا يتمتع بها باقى أهالى القرية. فعملهم الزراعة والفلاحة. ينسى لحظتها أخطار البلهارسيا وأعراضها ومضاعفاتها. جرياً وراء استعراض القدرة على السباحة. والباقون يقضون يومهم على شاطئ النهر ما بين زردة الشاى وتدخين المعسل وتناول وجبة شم النسيم. لم تكن عقولنا البسيطة ولا وعينا ذو البُعد الواحد ينظر إلى ما وراء الأشياء. فلا أذكر أن هناك من تكلم عن العيد باعتباره أحد أعياد الإخوة المسيحيين. أكبر خطأ نمارسه الآن عندما نقول عنهم الأقباط. فالقبطى فى اللغة المصرية القديمة هو المصري. وقريتنا باعتبارها قرية أما، كانت بها ومازالت كنيسة. كنت أسمع صوت جرسها صباح الأحد. وحولها يزرعون أشجار ذقن الباشا التى لا حد لجمال عطرها ورائحتها. ولم تكن توجد إلا هناك. وحتى نتمتع بها لا بد من الذهاب واللعب تحتها وهز الشجرة حتى تفرش الأرض تحت الشجرة زهورها العطرة والجميلة. ثم جاءت وحشة تقدم العمر وإدمان القراءة. وضمن ما قرأت عن شم النسيم. ربما بعد هجرتى من قريتى إلى المدينة: دمنهور، الإسكندرية، ثم القاهرة. شم النسيم عيد فرعوني. وأنا لا أحب كلمة فراعنة. فهى تشير للحكام. فى حين أن الشعب المصرى صانع حضارته. ولذلك أقول أعياد مصر القديمة. التى ارتبطت بالظواهر الفلكية وعلاقتها بالطبيعة ومظاهر الحياة. احتفلوا بعيد الربيع الذى حددوا ميعاده بالانقلاب الربيعي، وهو اليوم الذى يتساوى فيه الليل والنهار وقت حلول الشمس فى برج الحمل، ويقع فى الخامس والعشرين من شهر برمهات، فكانوا يجتمعون أمام الواجهة الشمالية للهرم. قبل الغروب. ليشهدوا غروب الشمس، فيظهر قرص الشمس مائلاً نحو الغروب. مقتربًا تدريجيًّا من قمة الهرم، حتى يبدو للناظرين وكأنه يجلس فوق قمة الهرم، وفى تلك اللحظة يحدث شئ عجيب، تخترق أشعة الشمس قمة الهرم، فتبدو واجهة الهرم أمام أعين المشاهدين وقد انشطرت لقسمين. ترصد وقائع التاريخ توصل العالم البريطانى «بركتور» لرصد الظاهرة، وتمكن من تصوير لحظة انشطار واجهة الهرم فى 1920م، كما استطاع العالم الفرنسى «أندريه بوشان» فى 1934م تسجيلها باستخدام الأشعة تحت الحمراء. المؤرخ اليونانى هيرودوت زار مصر فى القرن الخامس قبل الميلاد وكتب عنها كتابه، ترجمه محمد صقر خفاجة: هيرودوت يتحدث عن مصر. تحدث عن العيد ومظاهره. ابتداء من الأسرة الفرعونية الخامسة عندما بدأ الاهتمام بتقديس النيل نهر الحياة كان للمصريين القدماء عناية بحفظ الأسماك، وتجفيفها وتمليحها وصناعة الفسيخ والملوحة واستخراج البطارخ. وأنهم كانوا يأكلون السمك المملح فى أعيادهم. ظهر البصل ضمن أطعمة عيد شم النسيم فى أواسط الأسرة الفرعونية السادسة. وارتبط ظهوره بما ورد فى إحدى أساطير مدينة «منف» القديمة التى تروى أن أحد الملوك كان له طفل وحيد أصيب بمرض غامض، واستدعى الملك الكاهن الأكبر لمعبد آمون، فنسب مرض الأمير الطفل إلى وجود أرواح شريرة تسيطر عليه، وأمر الكاهن بوضع بصلة ناضجة تحت رأس الأمير فى فراش نومه عند غروب الشمس. فشفى من مرضه. سؤالى الأخير: كيف لم يظهر شم النسيم فى النص الروائى المصرى المعاصر؟ فى السينما لا نجد سوى فيلم وحيد عنوانه: شم النسيم. عُرِض فى 10/11/1952، 100 دقيقة، إخراج: فرنيتشو، ومخرج مساعد حمادة عبد الوهاب. قصة وسيناريو وحوار السيد بدير. بطولة: سميرة أحمد، محمود شكوكو، محمود عزمي، زينات صدقي، رفيعة الشال. لمزيد من مقالات يوسف القعيد