عرضت فى مقالة سابقة عنوانها «الإسلام خارج الحدود» لآراء الفيلسوف الألمانى إيمانويل كانط عن ضرورة إبقاء المسلمين خارج حدود أوروبا البيضاء، وعن العرب بوصفهم كالمغول بدوا آسيويين صفرا ينبغى أن يلزموا صحراءهم مع خيولهم وأغنامهم. وأود أن أثبت هنا أن الفيلسوف العربى ابن رشد عبر الحدود إلى أوروبا وأصبح جزءا لا يتجزأ من ثقافتها ومن الثقافة الإنسانية بصفة عامة. وأنا لا أعنى فقط أن معظم مؤلفات الفيلسوف العربى انتقلت إلى أوروبا عن طريق الترجمة إلى اللاتينية فى القرن الثالث عشر. كلا ولا أعنى فقط أنه استقبل هناك بالإعجاب والتمجيد بوصفه «الشارح الأكبر» (لأرسطو) ثم شنت عليه حرب شاملة وممتدة إلى أن وضع فى ركن مظلم من الذاكرة الجماعية الأوروبية. فكل تلك أمور واضحة وثابتة. ولكنى أريد أن أقول أيضا إن تأثير ابن رشد تغلغل فى الثقافة الأوروبية رغم العداء الذى واجهته به، وكان قوة دافعة إلى التجديد، بحيث لا يمكن لتاريخ الفلسفة أن يكتب بموضوعية دون أن يخصص فيه فصل لابن رشد، ولدوره فى ثورة الفكر الحديث. وقد قيل عن ابن رشد إنه أحدث «صدمة» فى الثقافة الأوروبية. كما قيل عنه أحيرا إنه كان فيلسوفا مثيرا للقلق لأنه بعث فى هذه الثقافة مخاوف وكوابيس لا تطاق. وكل ذلك صحيح، ولكن ينبغى أن نتجاوز الظواهر التى تطفو على السطح، وأن نتساءل: ما هى فى حقيقة الأمر تلك الشكوك والمخاوف؟ ما هو مصدرها الأساسى؟ وما هو السر العميق لمعاداة أوروبا للفيلسوف العربى؟ أعتقد أن بداية الإجابة ينبغى أن تلتمس فى فكر ابن رشد ذاته، فى قلقه هو نفسه. فقد كان عقلا قلقا لا يقر له قرار، ومن ثم كان تأثيره كيفما وصفناه. كان قلقا ومن ثم مبدعا على نحو غير متوقع، أى بوصفه شارحا لأعمال أرسطو. نرى دليلا على ذلك فى شروحه المطولة على هذه الأعمال، وكيف حاول دون هوادة اكتشاف الحق الذى قاله المعلم الأول. عندئذ نراه يقلب الرأى بين احتمالات الفهم الممكنة وتفسيرات الشراح المتعددة، وما قد يثيره كل منها من صعوبات واعتراضات، وما يترتب على كل منها من أغاليط وشناعات، وما ينبغى عمله لحل تلك المشكلات. وحقيقة الأمر أنه كان لا يدخر جهدا فى شرح أرسطو، ويحرص على الأمانة فى الشرح، ويؤمن بأن آراء المعلم الأول مؤسس العلوم جميعا - صادقة أو تحتوى على نواة الصواب ولكن تترتب عليها نتائج لا يقبلها العقل. وهو يحاول عندئذ إيجاد حلول وسط بين الجانبين، ولكن حلوله المقترحة غير ناجعة، ويبدو أنه هو نفسه لم يكن مقتنعا بها تماما. وتحير ابن رشد على هذا النحو ينتهى به إذن إلى طرح مسألة يتركها مفتوحة، أو «معضلة». وهذه المسائل المفتوحة هى التى حركت المياه الراكدة فى الثقافة الأوروبية. فقد أغرت خصومه رجال الدين باتهامه بآراء يمكن أن تنسب إلى أرسطو، وبإدانته بالكفر وبما هو أسوأ. كما سمحت تلك المسائل لأتباع ابن رشد فى أوروبا من يسمون الرشديين اللاتينيين بالتطرف فى اتجاه مضاد. ومثال ذلك مسألة العلاقة بين الشريعة (الدين) والحكمة (الفلسفة أو العلم، أو العلم الذى جاء به أرسطو على وجه التحديد). فنحن نعلم أن ابن رشد حاول الإدلاء بالقول الفصل فى إثبات الاتصال (التطابق، أو الانسجام) بين الطرفين. ولكن هذه المحاولة تدل على أنه كان يفترض وجود انفصال ولو فى الظاهر بين الجانبين، أو وجود تباين موضعى بين الطرفين. وقد تأكد لديه ذلك عندما انخرط فى شرح أرسطو، ووجد أن منظومة العالم كما تصورها تخلو من أى تدخل للإله ومن أى علل غيبية. ومن ثم كان سعيه إلى إقامة الجسور بين الدين والعلم عن طريق تأويل نصوص الشريعة، والعمل على إدراج بعض المفاهيم الدينية فى المنظومة الأرسطية دون تعسف، أى بالاستناد إلى عناصر من داخلها. إلا أن ابن رشد لم يكن راضيا تمام الرضا عن جهود الوساطة التى بذلها، واعترف صراحة بقصور سعيه فى هذا المجال. هو إذن لم يحسم القضية وترك الباب مفتوحا للاختلاف. فلم يعبأ أحد سواء من خصومه أو أتباعه فى أوروبا بالجسور التى سعى إلى إقامتها، بل رأى الجميع ما أحدث من تصدع فى البنية الفكرية السائدة، بنية السيطرة الدينية الكاملة. ورأى الجميع بعبارة أخرى أن العلم يتحرك نحو الانسلاخ عن الدين، فأسخط ذلك البعض، وشجع البعض الآخر على استغلال الفجوة الناجمة بغية الخروج عن سطوة الكنيسة. فكان الوضع لا يطاق بالنسبة لرجال الدين، لأنهم رأوا أن العلم يتحرك ليكون قارة وحده. وكان ذلك هو السبب الأساسى لشنهم الحرب على ابن رشد. أما أتباع ابن رشد، فقد وجدوا هنالك فرصة لتعزيز استقلال العلم، فرأوا أن هناك نوعين من الحقيقة: حقيقة لهذا الجانب، وحقيقة للجانب الآخر، رغم أنهما متعارضان. ويعود بنا ذلك إلى كانط. لقد ظلت حركة استقلال العلم التى أطلقها ابن رشد تتعمق وتشتد إلى أن وضعها الفيلسوف الألمانى فى أوضح صورة لها فى القرن الثامن عشر. ذلك أنه رأى أن ظواهر الطبيعة تتحكم فيها حدود الحساسية البشرية والفهم البشرى، وتخضع لقوانين حتمية صارمة، وأنه ليس فى هذا النظام مكان للعقائد الدينية الأساسية. كما أن ابن رشد لم يترك مسألة العلاقة بين الدين والعلم مفتوحة إلا إلى حين. ولقد حسمها فى إحدى مراحل تطوره، وفى كتاب تهافت التهافت على وجه التحديد، عندما تخلى عن فكرة الوساطة ومد الجسور، ورأى أن مبادئ الشريعة لا يمكن ولا يجوز التعرض لها بقول مثبت بناء على مقدمات طبيعية، بل ينبغى التدليل عليها عن طريق «المصادرة والوضع»، أى التسليم بها منذ البداية لأنها ضرورية لسعادة الإنسان والأعمال الفاضلة. وبذلك أصبح لمبادئ الشريعة مجال خاص بها هو الأخلاق - بمعزل عن العلم (العقل)، ولكن هذا يعنى أن ابن رشد سبق كانط بعدة قرون إلى الفصل الحاسم بين المجالين. ولو أن كانط كان منصفا، ولم يقرر استبعاد كل ما هو عربى وإسلامى، لاعترف بأهمية ابن رشد، ولأقر بفضله، ولأدرك أن هذا العربى يسكن بجواره. لمزيد من مقالات عبدالرشيد محمودى