خرج علينا الدكتور محمد المخزنجى فى أول هذا العام بعدة كتب مختلفة أنواعها صدرت جميعاً عن دار الشروق؛ قرأت منها اثنين, أحدهما مجموعة قصصية بعنوان «صياد النسيم», أما الكتاب الثانى فيضم نصين: رواية قصيرة جداً بعنوان «بيانو فاطمة», والنص الآخر ضرب من الأدب الصحفى الساخر يتراوح بين المقالة وبين الأمثولة من أدب الحيوان الرمزى, ككليلة ودمنة وخرافات إيسوب, المطعم بما درج عليه المخزنجى فى السنوات الأخيرة من قراءة أديب مندهش لحقائق العلم فيما يخص السلوك الحيوانى. كل هذا نجده مضفراً مع بعض ذكريات الطفولة, ليمتزج أدب السيرة الذاتية بالهجاء السياسى والاجتماعى الساخر بقصص الحيوان بآخر اكتشافات العلم من دراما شديدة الإنسانية فى سلوك المخلوقات البليغة الخرساء التى تنطق عنها عين طفل ترتدى نظارة عالم خبير مدقق. النص يحمل عنوان «البحث عن حيوان رمزى جديد للبلاد», ويستعرض بعض المخلوقات التى عادة ما ارتبطت بمصر ودول أخري, كالنسر والأسد والجاموسة, فيعرض الأسباب المستمدة من العلم أو التاريخ التى ترشح هذا الحيوان أو ذاك ليكون رمزاً قومياً, ثم يفند هذه الأسباب والأسانيد التى قد تؤيدها, ليستقر فى النهاية على مخلوق وديع وصبور, حنون وحمّال أسيّة هو الحمار, الذى تقول كتب العلم إن المصريين القدماء هم أول من استأنسوه ودجّنوه. ثم ينتقل المخزنجى من التاريخ إلى الأدب, المصرى والعالمى, والتراث الشعبى, من حمار جحا لحمار الحكيم لحمار سانكو بانزا التابع الأمى المصدق لحماقات سيده دون كيشوت, وغير ذلك من أعمال أدبية وحكايات فلكلورية, ثم إلى تجربته المباشرة ومرئيات الطفولة التى غرست فى وجدانه مقدار ما تتمتع به عملية التزاوج بين الكائنات من فرحة بكر بريئة ومبرأة من البذاءة والفجاجة. ثم يحكى لنا عن الحمار البرى من واقع قراءاته العلمية, وكيف أنه زوج وعشير مخلص وفيّ يكوّن مع أتانه (الأتان: أنثى الحمار) أسرة متماسكة تتعلق بالأبناء ولا تتخلى عنهم, ويقارنه بالأسد وأنثاه التى هى فى الإخلاص للزوج والأبناء عكس الأتان تماماً. ثم يغوص بنا المخزنجى فى اللغة, وما يمثله «الحمار» واشتقاقات كلمة «حمار» فى عاميتنا من معانٍ, رابطاً بين البلاغة العامية وما تحمله من حكمة شعبية, وبين تاريخنا وتاريخ الإنسانية السياسي؛ بين الاستعمار و«الاستحمار» على سبيل المثال. ويختم المخزنجى نصه بتفريق علمى بين الحيوان البرى المروّض, كأسود السيرك, وبين الحيوانات «المدجنة» التى استأنسها الإنسان ومنها الحمار: ذلك أن الأخيرة تتوالد فى الأسر وتخلق ذرية أسيرة مثلها, أما الكائن البرى «المروض» فلا يتزاوج ولا يتوالد وهو فى أسر الإنسان, بل يخضع مضطراً, وقد يتحين الفرصة ليثب على مروّضه كما يحدث أحياناً فى السيرك. لم يذكر المخزنجى تاريخ كتابة هذا النص؛ لكن ما يحفل به من إشارات تحصر فترة كتابته بين مطلع هذا القرن ونهاية عقده الأول, ويعكس حالة الزخم والفوران الاجتماعى المتصاعد فى ذلك العقد. إن ذلك «البحث عن حيوان رمزى جديد للبلاد» يوازيه على الصعيد الإبداعى سعى حثيث نحو شكل فنى ونوع أدبى جديد تولده شخصية المخزنجى الغنية الحافلة بالمعرفة العلمية الرصينة وبدهشة الفنان الطفلية فى رحاب الحقائق التى تكشفها المعرفة لذلك العالم, ثم الحيرة الإبداعية التى يجد الكاتب المبدع نفسه فيها حين تُطلب منه كتابة صحفية منتظمة. كل هذا فجّر فى نفس المخزنجى ونصّه هذا المزيج البكر, وتلك الجرأة, بل الجسارة, على اقتحام وإقحام أنواع وأشكال شتّى شكلت فى النهاية نصاً أراه رائداً, ومتهوراً فى اندفاعه الإبداعى تهوراً حميداً بروح طليعية تدعو للإعجاب.. أما «بيانو فاطمة» و«صياد النسيم» فحكايات أخرى نسردها فيما بعد إن أحيانا المولى. لمزيد من مقالات بهاء جاهين