ما أن أعلن «ترامب» عن نيته لتقديم صفقته حول الصراع العربى الإسرائيلى والصراع الفلسطينى الإسرائيلى، حتى بدأ سيل لا ينقطع من التسريبات غير الرسمية من كل حدب وصوب؛ صحف أمريكية وأخرى عربية وكذلك مواقع إخبارية إلكترونية معنية بتتبع مجريات الأمور، والغريب أن غالبية هذه التسريبات تزعم لنفسها المصداقية وأن المعلومات الواردة فيها تأتى من مصادر ودوائر قريبة من غرفة صناعة هذه الصفقة. لا يمكن الجزم بهوية الجهات والقوى التى تقف خلف هذه التسريبات، فهى قوى ذات طبيعة غامضة ربما بذات درجة الغموض الذى يحيط بهذه الصفقة، ومع ذلك فإنه من الممكن الإشارة إلى أمرين أولهما: أن هذه التسريبات ليست عفوية أو تلقائية، بل هى منظمة ومخططة على نحو أو آخر، بدليل تفاوت بعضها فى المحتوى عن بعضها الآخر، ففى إحدى هذه التسريبات يشار إلى أن المنطقة (ج) التى تسيطر عليها إسرائيل أمنيا وسياسياً سوف تسلم إلى الفلسطينيين باستثناء الكتل الاستيطانية، وفى بعضها الآخر أن الصفقة سوف تقتصر فى مرحلة أولى على المناطق أ و ب ويتم إرجاء المنطقة (ج) حتى إشعار آخر، أما ثانى هذه الأمور فيتمثل فى أنه وبالرغم من صعوبة الجزم بهوية من يقف وراء التسريبات فإنه لا يمكن إغفال دور إسرائيل والدوائر المؤيدة لا فى الولاياتالمتحدةالأمريكية والتى ينتمى إليها الثلاثى أو الرباعى المكلف «بطبخ» هذه الصفقة، أى جاريد كوشنر وجبسون جرنبلات وفريدمان ومارك بنس نائب الرئيس الأمريكى، كذلك فإنه ثمة من ينسب إلى أجهزة «الدولة العميقة» فى الولاياتالمتحدةالأمريكية دورا كبيرا فى هذه التسريبات، والهدف بطبيعة الحال إظهار جهل ترامب وفريقه, ولا شك أن افتراض أن هذه التسريبات هناك من يقف وراءها وينظم توقيتاتها ومضامينها وأن ثمة «عقلا سياسيا» يدير هذه العملية، وفق تخطيط مدروس، يعززه الأهداف الظاهرة والمضمرة التى يمكن تحقيقها أو تِعول على تحقيقها مثل هذه التسريبات، فى مقدمة هذه الأهداف جس نبض ردود الفعل العربية رسميا وشعبيا، وقياس حجم هذه الردود، وما إذا كان من الممكن أن تشكل معوقات أمام تنفيذ هذه الصفقة وبنودها، وربما تعديل بعض هذه البنود بصيغ مختلفة لا تتعارض بالضرورة مع جوهرها ومحتواها، أما ثانى هذه الأهداف فيتمثل فى زرع بذور الشقاق والصراع إما فى الساحة العربية عموما أو فى الساحة الفلسطينية خصوصا. أما الهدف الثالث وربما ليس الأخير فيتمثل فى تهيئة المناخ للصياغة النهائية لبنود هذه الصفقة بناء على تقديرات واقعية، لطبيعة المعارضة للصفقة والسماح لصانعيها بالمراوغة فى الشكل والمضمون. قد لا يمكن الاعتماد على مثل هذه التسريبات فى استشراف مضمون صفقة «ترامب» كما يسميها الصديق والسفير الفلسطينى الدكتور حازم أبو شنب؛ نظرا للطابع غير الرسمى لها وتضارب بعضها على نحو أو آخر، فى حين أنه يمكن اللجوء إلى الحكمة المأثورة من التراث الشعبى المصرى العربى، والتى تذهب إلى أن مضمون الخطاب يدل عليه العنوان، وهذه الحكمة كما تنطبق على العديد من الموضوعات فإنها تنطبق فى حالة «الصفقة» المزعومة، فعنوانها منذ الحديث عنها وبعده، بقليل قد اتضح من قرار إدارة ترامب بنقل السفارة الأمريكية فى إسرائيل إلى القدس، واعتبارها عاصمة إسرائيل التى بناها اليهود منذ آلاف السنين كما جاء فى كلمة ترامب، التى رافقت هذا الإعلان، والحال أن هذه الصفقة تتجه مباشرة إلى قضايا الوضع النهائى الخاصة بالقدس واللاجئين والحدود والمستوطنات، وهى القضايا الشائكة والتى تتخذ إزاءها إسرائيل مواقف متطرفة وأحادية، ولا تكترث بمطالب الجانب الفلسطينى والعربى وهكذا ذهب قرار «ترامب» الخاص بالقدس إلى إزاحة القدس من التفاوض، وإذا كان لابد من التفاوض فليمنح الفلسطينيون إحدى الضواحى للقدس كعاصمة لهم مثل قرية أبو ديس أو قرية «العيزرية» وكان ذلك ما قصده ترامب عندما أكد أن مصير القدس سيتحدد فى التفاوض، كذلك من المتوقع شطب قضية اللاجئين الفلسطينيين وحق العودة واحتفاظ إسرائيل بالكتل الاستيطانية فى المنطقة «ج» وإحاطة الكيان الفلسطينى المزمع إقامته بالسيادة الإسرائيلية والسيطرة العسكرية الإسرائيلية بما أن هذا الكيان منزوع السيادة. باختصار وإذا صح ذلك فإن هذه الصفقة تنزع لإيجاد تطابق بين الرؤية الأمريكية والرؤية الإسرائيلية للحل على ضوء الحالة النفسية والحالة العقيدية والسياسية التى تؤطر تفكير ترامب وفريقه المكلف بهذا الأمر، فترامب يرى نفسه زعيما ملهما وملتزما بتنفيذ وعوده الانتخابية، ومتفردا عن مختلف رؤساء أمريكا السابقين بل ويرى بعض أنصاره أن «فوزه نصرا ربانيا» ومن الناحية العقيدية فإن ترامب ومؤيديه يلتقون حول عقيدة الخلاص عبر عودة القدس والأرض الموعودة إلى الشعب اليهودى، وأما من الناحية السياسية فإن التطابق بين الموقف الأمريكى والموقف الإسرائيلى يستند إلى الواقع والقوة وتدعمه الوقائع على الأرض. الصفقة ليست قدرا محتوما فى حالة توفر الإرادة الشعبية والإرادة الرسمية لوقفها، من خلال الاحتجاج طويل المدى والصمود فى مواجهة الإملاءات، والرفض المستند إلى رؤية سياسية بديلة تتمسك بالحقوق الفلسطينية المشروعة والتأييد السياسى العالمى لها. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد