احسب إجازاتك.. تعرف على موعد العطلات الدينية والرسمية في 2026    روبيو يعرب عن تفاؤله بشأن إصدار قرار أممى حول غزة    اتفق مع الزمالك وغير رأيه، بتروجيت يحدد مصير حامد حمدان بعد عرض الأهلي (فيديو)    حبس المتهم بقتل زوجته فى المنوفية بسبب خلافات زوجية    اغتيال محمد الصداعي آمر القوات الخاصة داخل قاعدة معيتيقة في طرابلس    حبس شخصين لقيامهما بترهيب وفرض إتاوات على ملاك وحدات سكنية بالقطامية    المخرج محمد ياسين يوجه رسالة إلى خاله محمد عبد العزيز بعد تكريمه بمهرجان القاهرة السينمائي    «السك الأخير».. إنهاء عملة «السنت» رسميًا بعد 232 عامًا من التداول    «لو أنت ذكي ولمّاح».. اعثر على الشبح في 6 ثوانِ    التفاف على توصيات الأمم المتحدة .. السيسي يصدّق على قانون الإجراءات الجنائية الجديد    أبوريدة: متفائل بمنتخب مصر فى أمم أفريقيا والوقت لا يسمح بوديات بعد نيجيريا    القيادة المركزية الأمريكية: نفذنا 22 عملية أمنية ضد "داعش" طوال الشهر الماضي    إعلام: زيلينسكي وأجهزة مكافحة الفساد الأوكرانية على شفا الحرب    نقابة الموسيقيين تنفى إقامة عزاء للمطرب الراحل إسماعيل الليثى    غضب واسع بعد إعلان فرقة إسرائيلية إقامة حفلات لأم كلثوم.. والأسرة تتحرك قانونيا    الإنتاج الحربي يلتقي أسوان في الجولة ال 12 بدوري المحترفين    انطلاق معسكر فيفا لحكام الدوري الممتاز بمشروع الهدف 15 نوفمبر    وزير الإسكان: بدء التسجيل عبر منصة "مصر العقارية" لطرح 25 ألف وحدة سكنية    فرصة مميزة للمعلمين 2025.. التقديم الآن علي اعتماد المراكز التدريبية لدى الأكاديمية المهنية    المستشار بنداري: أشكر وسائل الإعلام على صدق تغطية انتخابات نواب 2025    سحب منخفضة ومتوسطة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الخميس 13 نوفمبر 2025    أمطار تضرب الإسكندرية بالتزامن مع بدء نوة المكنسة (صور)    انفجار ضخم يهز منطقة كاجيتهانة في إسطنبول التركية    قرارات جديدة بشأن مصرع وإصابة 7 في حادث منشأة القناطر    عماد الدين حسين: إقبال كبير في دوائر المرشحين البارزين    واشنطن تدعو لتحرك دولي عاجل لوقف إمدادات السلاح لقوات الدعم السريع    لافروف: إحاطات سرية دفعت ترامب لإلغاء القمة مع بوتين في بودابست    قفزة في سعر الذهب اليوم.. وعيار 21 الآن في السودان ببداية تعاملات الخميس 13 نوفمبر 2025    وزير المالية السابق: 2026 سيكون عام شعور المواطن باستقرار الأسعار والانخفاض التدريجي    فيفي عبده تبارك ل مي عز الدين زواجها.. والأخيرة ترد: «الله يبارك فيكي يا ماما»    يقضي على ذاكرتك.. أهم أضرار استخدام الشاشات لفترات طويلة    عقار تجريبي جديد من نوفارتيس يُظهر فعالية واعدة ضد الملاريا    طريقة عمل فتة الحمص بالزبادي والثوم، أكلة شامية سهلة وسريعة    ترامب يحمل «جين تاتشر» وكيندي استخدم مرتبة صلبة.. عادات نوم غريبة لرؤساء أمريكا    إسرائيل تُفرج عن 4 أسرى فلسطينيين من غزة بعد عامين    "حقوق المنصورة "تنظم يومًا بيئيًا للابتكار الطلابي والتوعية بمفاهيم الاستدامة وترشيد الاستهلاك    محمود فوزي: قانون الإجراءات الجنائية الجديد سيقضي على مشكلة «تشابه الأسماء»    حيثيات حبس البلوجر «سوزي الأردنية»: «الحرية لا تعني الانفلات»    النيابة العامة تخصص جزء من رسوم خدماتها الرقمية لصالح مستشفى سرطان الأطفال    أسعار السمك البلطي والكابوريا والجمبري بالأسواق اليوم الخميس 13 نوفمبر 3035    «ده مش سوبر مان».. مجدي عبد الغني: زيزو لا يستحق مليون دولار    خبير لوائح: قرارات لجنة الانضباط «تهريج».. ولا يوجد نص يعاقب زيزو    تأكيد لليوم السابع.. اتحاد الكرة يعلن حرية انتقال اللاعبين الهواة بدون قيود    «يتميز بالانضباط التكتيكي».. نجم الأهلي السابق يتغنى ب طاهر محمد طاهر    ليلى علوي: مهرجان القاهرة السينمائي يحتل مكانة كبيرة في حياتي    محمود فوزي ل"من مصر": قانون الإجراءات الجنائية زوّد بدائل الحبس الاحتياطي    ممثل المجموعة العربية بصندوق النقد الدولي: مصر لا تحتاج لتحريك سعر الوقود لمدة عام    دوامٌ مسائي لرؤساء القرى بالوادي الجديد لتسريع إنجاز معاملات المواطنين    إذا قالت صدقت.. كيف تتمسك مصر بملفات أمنها القومي وحماية استقرار المنطقة؟.. من سرت والجفرة خط أحمر إلى إفشال محاولات تفكيك السودان وتهجير أهالي غزة .. دور القاهرة حاسم في ضبط التوازنات الإقليمية    قد يؤدي إلى العمى.. أعراض وأسباب التراكوما بعد القضاء على المرض في مصر    مقرمش جدا من بره.. أفضل طريقة لقلي السمك بدون نقطة زيت    السيسى يصدر قانون الإجراءات الجنائية بعد معالجة أسباب الاعتراض    قصر صلاة الظهر مع الفجر أثناء السفر؟.. أمين الفتوى يجيب    رئيس الإدارة المركزية لمنطقة شمال سيناء يتفقد مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن الكريم بالعريش    انطلاق اختبارات «مدرسة التلاوة المصرية» بالأزهر لاكتشاف جيل جديد من قراء القرآن    «لو الطلاق بائن».. «من حقك تعرف» هل يحق للرجل إرث زوجته حال وفاتها في فترة العدة؟    محافظ أسيوط يحضر برنامج تدريب الأخصائيين على التعامل مع التنمر    دعاء الفجر | اللهم ارزق كل مهموم بالفرج واشفِ مرضانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن الجزائر والإرهاب الدينى
نشر في الأهرام اليومي يوم 09 - 03 - 2018

ربما كان أفضل ما فعله معرض الكتاب هذا العام (2018) هو أنه جعل من دولة الجزائر ضيف شرف المعرض. ولذلك دعا عددًا من أبرز الأدباء الجزائريين، وكان على رأسهم واسينى الأعرج وعز الدين ميهوبى وزير الثقافة الجزائرى الحالى، وكلاهما كاتب موهوب، وشخصية لها تأثيرها فى الأدب العربى بوجه عام. وقد سبق لى أن كتبتُ عنهما فى سياق مقاومة الرواية الجزائرية للإرهاب الدينى الذى امتد نحو عشر سنوات بالجزائر، وترك نحو ربع مليون شهيد من الرجال والنساء الذين قتلتهم أصابع الغدر وأسلحته ولم تراعِ فارق السن، جامعة بين الكبار والصغار دون أدنى تمييز، وذلك بفتوى شيطانية مؤداها أن الجميع كفار وأن الأطفال الأبرياء سرعان ما يتحولون إلى كفار عندما يكبرون، فمن الأوفق قتلهم.
..............................
وللأسف اقترن التعريب (الذى كان دفاعًا عن الهوية العربية الجزائرية فى مواجهة الفَرْنَسة) بنزعة دينية سلفية أسهمت فى تغذيتها بعض العقليات المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين، مثل الشيخ محمد الغزالى الذى خصصت له الحكومة الجزائرية فى السنوات التى عمل فيها بالجزائر- برامج تليفزيونية للدعوة الإسلامية التى كان لها دورها السلبى فى تحويل عملية التعريب، أو الحفاظ على الهوية العربية فى مواجهة تيار الفرنسة، إلى عملية تديين، كانت مقدمة لتيار سلفى متشدد، هيَّأ المناخ لظهور «الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية» بقيادة عباس مدنى، والإعلان عنها فى فبراير سنة 1988. وهى حزب سياسى جزائرى سابق، حُلّ بقرار من السلطات الجزائرية فى مارس 1992. وقد عمل هذا الحزب منذ تأسيسه فى سياق تنامى الصحوة الإسلامية وتأكيدها، وفى مواجهة الفساد الحكومى، على إصلاح العقيدة الإسلامية التى أصبحت مرادفة للتيار العروبى بمعنى من المعانى، وذلك فى موازاة الدعوة إلى استعادة الأخلاق والقيم الإسلامية الأصيلة، والعمل على تحسين الاقتصاد المنهار على أساس إسلامى، فالإسلام دين ودولة معًا. وتزايدت شعبية الجبهة الإسلامية للإنقاذ بين الفئات الفقيرة والمطحونة اقتصاديًّا نتيجة الفساد الحكومى الغالب، الأمر الذى أدى إلى النجاح الساحق فى الانتخابات المحلية للحزب، واكتسبت انتشارًا كبيرًا فى أوساط الشعب الجزائرى الذى التفت أكثريته حول هذا الحزب الإسلامى الأصولى بزعامة عباس مدنى، ونائبه عباس بلحاج. وكانت من أثر ذلك النتائج الساحقة للانتخابات التشريعية التى حققتها الجبهة التى فازت بأغلبية ساحقة وصلت إلى 82% بعدد 188مقعدًا من أصل 231، وهو ما جعلها تصل إلى أحد أهم مراكز صنع القرار. وترتب على ذلك قيام الرئيس الجزائرى الشاذلى بن جديد بحل المجلس الشعبى الوطنى الذى كان يرأسه عبد العزيز بلخادم فى الرابع من يناير 1992. وبعدها بأيام (فى الحادى عشر من يناير) استقال الرئيس الشاذلى بن جديد من رئاسة الجمهورية فجأة، وذلك بضغط من جنرالات القوات المسلحة فيما يقال. وقرر المجلس الأعلى للأمن إلغاء نتائج الانتخابات. وهو الأمر الذى أدى إلى دخول الجزائر فى حقبة دامية من الحرب التى شنتها الجماعات الإسلامية المسلحة على كل من يخالف مبادئها وشعاراتها وحتى تأويلاتها المتطرفة للإسلام. وفى هذه السنوات الدامية والمأساوية، لم يتردد الأثرياء الداعمون للتطرف الدينى الذى تحوَّل إلى إرهاب كابوسى فى دعم الإرهاب الدينى بالجزائر، على نحو ما فعل أسامة بن لادن، وذلك على نحو أحال السلفية الإسلامية من أبناء جبهة الإنقاذ إلى إرهابيين، سرعان ما تحولوا إلى رجال عصابات من الشباب الفقير الذين انجذبوا إلى الثورة الجزائرية تحت لواء الجماعة الإسلامية المسلحة GIA ) Groupe Islamique Armé). وقد تنبأ الكاتب الجزائرى الطاهر وطار ببزوغ هذه الجماعات فى روايته التى سبق أن كتبت عنها «الزلزال». وقد انفجرت هذه الجماعات بالفعل فى سنوات عشر من الفوضى والإرهاب والقتل. أغرق فيها الإسلاميون المسلَّحون البلاد فى أنهار من الدماء. وقد تطورت الأحداث فى الاتجاه التكفيرى المُتوقع لها، فبدأ الإسلاميون بقتل غير المسلمين لاسيما القساوسة والراهبات والدبلوماسيين والمثقفين والمنادين بحقوق المرأة والأطباء ورجال الأعمال. وطبقًا لمنطق الجماعة الإسلامية المسلحة فيما يقول لورانس رايت فى كتابه «البروج المشيدة: القاعدة والطريق إلى 11 سبتمبر» - فإن الديمقراطية والإسلام نُظِر إليهما بوصفهما قطبين متعارضين، ونُظِر إلى العالمية بوصفها كفرا. وإلى دُعاة فصل الدين عن الدولة بوصفهم كُفارًا. وعلى هذا الأساس أصبح كل من لديه بطاقة انتخابية عدوًا للإسلام ويستحق أن يُقتل. وامتد هذا التصريح بالقتل ليشمل كل من يعمل فى المؤسسات التابعة للحكومة مثل المدارس العامة، ففى غضون شهرين فقط من عام 1994 قُتِل ثلاثون مدرسًا وناظرًا وأُضرِمت النيران فى 538 مدرسة، ولم يكن إرهابيو الجماعة المسلحة يستهدفون المُدرِّسين والديمقراطيين فحسب، فقد ذبحوا سكان قرى بأكملها فى مذابح حدث الكثير منها فى منتصف الليل، وكانوا يُشيدون بهذه الفظائع على صفحات جريدة «الأنصار» الأسبوعية التى كانت تنشرها الجماعة المسلحة فى لندن، وهى الجريدة التى كانت تتصدرها عناوين مثل: «الحمد لله ذبحنا اليوم مائتى شخص» و«أحد إخواننا يطيح برأس أبيه فى سبيل الله»، وقد وصلت موجة الجنون الدينى إلى ذروتها فى إعلانٍ أدان الشعب الجزائرى برُمَّته، فقد نص بيان رسمى للجماعة على هذه المعادلة بوضوح قائلًا: «لا يوجد حياد فى الحرب التى نشنها، ففيما عدا أولئك الذين يحاربون فى صفوفنا، الجميع مرتدون ويستحقون الموت». وكانت هذه المعادلة ممكنة ومقبولة فى أعيُن الذين رأوا فى ذلك الصراع حرب نهاية العالم الكافر الذى يعيش جاهلية القرن العشرين التى تحدث عنها سيد قطب، وتبناها أسامة بن لادن الذى سرعان ما تباعد عن الجماعة الدينية المسلحة بسبب موجات عنفها التى أصابت العالم كله بالاشمئزاز من الفظائع التى ارتكبها أصحاب المشروع الإسلامى فى الجزائر، فقد كان ابن لادن، يسعى لرسم صورة أفضل للجهاد، ولذلك عندما جاء بعض قادة الجماعة الإسلامية المسلحة إلى الخرطوم يَسْتجْدون المزيد من الأموال، واتتهم الجرأة الكافية كى ينقدوا ابن لادن: «لأنه لين العَريكَة بصورة مُفرطة مع الديمقراطيين، الأمر الذى جعله يبدو ضعيفًا»، فاستشاط ابن لادن غضبًا، وسحب دعمه لهم بالكامل، ولكن بعد أن أسهمت الألوف المؤلَّفة من الدولارات التى أرسلها لهم فى البداية فى اشتعال نيران الإرهاب فى الجزائر، وتسببت فى حرب أهلية جزائرية نتج عنها موت ما يقرب من رُبع مليون شخص.
وقد سبق أن تحدثتُ عن هذه المذابح فى دراستى عن روايتى الطاهر وطار الذى وُلد سنة 1936 والأجيال التى جاءت بعده، التى ينتسب إليها واسينى الأعرج المولود سنة 1954 والمعاصر لجيل عز الدين ميهوبى المولود سنة 1959، وفضيلة الفاروق المولودة سنة 1967، وهى أجيال توقفت كثيرًا ومتأنيًة عند هذه المذابح خصوصًا أنها أجيال عاينت هذه المذابح من ناحية واكتوت بنارها من ناحية أخرى، أعنى جيل واسينى الأعرج الذى كان عليه أن يعيش عامين فى داخل الجزائر متخفيًا إلى أن تركها لكى يعمل فى إحدى الجامعات الفرنسية قبل أن يستقر فى جامعة السوربون الجديدة، إلى جانب الجامعة الجزائرية التى عاد إليها بعد أن انقضى كابوس الإرهاب الدينى الذى ارتكب أبشع الجرائم باسم الإسلام، والإسلام منه براء.
ومن المهم أن يلاحظ المرء الفوارق بين هذه الأجيال، أعنى جيل الطاهر وطار الذى كان منحازًا إلى العروبة بمعناها القومى والثقافى، معاديًا الفساد السياسى الذى تكشَّفت عنه حكومات ما بعد الاستقلال، محاولًا تحقيق توازن معقول بين تراثه العربى وتراث العالم كله، بما لا يُفقده هويته الجزائرية العربية، وذلك من منظور الجزائرى الذى درس فى معهد الإمام عبد الحميد بن باديس فى قسنطينة وجامع الزيتونة فى تونس، والذى كان عضو جبهة التحرير الجزائرية منذ الخمسينيات إلى الثمانينيات. أما جيل واسينى الأعرج وعز الدين ميهوبى، فهو جيل مختلف يرجع وعيه التكوينى إلى الخمسينيات التى وُلد أولهما فى نصفها الأول وثانيهما فى نصفها الثانى، ويجمع بينهما تجاور الثقافتين الفرنسية والعربية، الأول بحكم تكوينه الأكاديمى الذى حكم عليه بالمناقلة ما بين الجامعة الفرنسية والجامعة الجزائرية، والثانى بحكم كونه شاعرًا وكاتبًا حركيًّا تنقل ما بين العمل الإبداعى والنقابى إلى أن أصبح وزيرًا للثقافة. وأخيرًا جيل فضيلة الفاروق ابنة الأسرة الجزائرية المنتسبة إلى العلماء، والتى دفعها الجيل المعاصر لهزيمة 1967 واحتدامه إلى الهجرة النهائية من الجزائر إلى بيروت، حيث تزوجت واستقرت، وأصدرت روايتها التى تشبه الطلقة فى كثافتها وحدية تمردها على مجتمعها المتخلف الفاسد الذى انتهى به الأمر إلى كابوس إرهاب دينى استمر عشر سنوات سوداء.
ومن المؤكد أن قسوة المعاناة الحدية التى عاناها واسينى الأعرج من الإرهاب الدينى بثقافته الحداثية تختلف فى وقعها عن معاناة الطاهر وطار الذى ظل ممزقًا بين قطبى الحديث والقديم، فى إيمانه بالدولة التى تجمع ما بين أصالة الماضى وحداثة الحاضر، وذلك مقابل الدولة التى تفصل ما بين الدولة بمؤسساتها المدنية والدين بروحانيته مقابل شعار الإسلام دين لا دولة الذى انحاز إليه واسينى الأعرج وعز الدين ميهوبى. ويبدو أن قسوة المعاناة التى عاناها واسينى الأعرج لم تدفعه إلى كتابة روايته «سيدة المقام» التى سبق أن كتبتُ عنها فحسب، بل دفعته إلى الاستمرار فى الكتابة التى تركت لنا روايتى «مملكة الفراشة» و «أصابع لوليتا»، وكلتاهما من منشورات دار الآداب. وقد صدرت «أصابع لوليتا» عن دار الآداب عام 2012 وبعدها «مملكة الفراشة» عن الدار نفسها عام 2013، وذلك على نحو يمكن إن نقول معه أن واسينى الأعرج هو الكاتب الجزائرى الذى ظل يكتب عن الإرهاب الدينى فى الجزائر عبر أكثر من رواية تبدأ ب «سيدة المقام» ولا تنتهى ب «مملكة الفراشة». وبما أننى سبق أن كتبت عن «سيدة المقام»، فإننى (لكى يكتمل المشهد الجزائرى) أواصل الكتابة عن مقاومة إبداع واسينى الأعرج فى مقاومة الإرهاب الدينى عبر روايتيه الأخريين اللتين أرى فيهما جانبًا أساسيًّا من إسهام روائى عربى كبير مثل واسينى الأعرج - الذى أعده فى الطليعة من الروائيين العرب الكبار- فى مقاومة الإرهاب الدينى الذى يقضى على الأخضر واليابس، الذى هو أعدى أعداء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، الذى ارتكب جرائمه فى الثمانينيات والتسعينيات الجزائرية التى لو كنا تعلَّمنا منها فى مصر- لكنا جنبنا أنفسنا من المآسى والكوابيس التى عانيناها بسبب جماعات الإسلام السياسى التى تحولت إلى الإرهاب التى لم تتوقف إلى اليوم عن قتل الأبرياء وتدمير دور العبادة التى لا فاصل فيها بين مسجد وكنيسة.
والطريف هو هذا التشابه الذى يلفتنا إليه واسينى الأعرج فى حوار مع الدكتور خالد منتصر نشره الثانى فى جريدة الوطن المصرية (يوم السبت الموافق 3 فبراير 2018) مؤكدًا فيه رؤيته السلبية للإرهاب الدينى وهمومه التى جمعت ما بين مصر والجزائر فى الابتلاء به، لافتًا الانتباه إلى ترابط الفقر والأزمات الاقتصادية مع الجهل وانحدار التعليم، فضلًا عن الفساد السياسى الذى يدفع بالجماهير الفقيرة إلى حضْن الجماعات الدينية الإرهابية التى تسببت فى السنوات السوداء التى عاشتها الجزائر قبلنا، والتى كان يمكن أن نفيد منها لو كنا تعلمنا الدرس الذى مفاده أن «الإسلاميين فى الجزائر استخدموا الديمقراطية سُلَّمًا، ثم ركلوه، وقالوا: «هذه هى نهاية اللعبة». وفى الوقت نفسه كان الخطأ الأكبر الذى ارتكبته الدولة فى الجزائر هو عزل النخبة العلمانية المثقفة، وتغليب الإسلاميين الذين استغلوا سوء الحالة الاقتصادية لاكتساح الانتخابات، وبعد أن اكتسحوا الانتخابات زاحموا السلطة السياسية وحدثت المواجهة بينهم وبين الدولة، فدخلت الجزائر الكابوس الذى لم يخُرجها منه سوى الجيش الذى أعاد الجزائر إلى طريق الدولة المدنية». وتلك دروس ذهبية للأسف لم تتعلم منها الأنظمة الحاكمة فى مصر، وأرجو أن تتعلم الحكومة الحالية روشتة العلاج الفكرية للخلاص الدائم من تيار الفاشية الدينية لمصر والجزائر على السواء، بينما يرى واسينى الأعرج الذى يختصر هذه الروشتة بتأكيده أهمية التعليم بمعناه الحديث، وذلك بشرط أن تكون المدرسة عقلانية الاتجاه، منفتحة، إنسانية التوجه، مدرِّسُوها مُشبَّعون بروح الثقافة الإنسانية. أما القُدامى من المدرسين فلابد من تدريبهم على أفكار الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، وهى خطة استراتيجية واعدة، دونها سيتحول الحاكم إلى رجل إطفاء ولكن النار لن تنطفئ. وتقترن بذلك إشاعة الوعى العلمانى بمعناه الصحيح الذى لا يعادى الأديان، وإنما ينحصر فى الفصل بين الدين والدولة. وهو الأمر الذى يترتب عليه فك الارتباط الموجود فى أذهان الناس بين العلمانية والإلحاد، فكلاهما لا يتصل إلا فى وضع كنسى متردّ مضى وانتهى فى أوروبا التى عانت مأساة البطريركية الدينية التى لم نُعانها فى ثقافتنا التى انتبهَ إلى إمكاناتها ابن رشد فيما قصد إليها من معنى «الفصل» فى كتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال».
والآن ننتقل إلى أولى روايتى واسينى الأعرج «أصابع لوليتا» و«مملكة الفراشة»، وكلتاهما عمل أدبى ينطوى على ما يشير إلى ارتفاع قامة واسينى الأعرج الروائية، فالفارق الفنى كبير بين رواية واسينى الأولى «سيدة المقام» (التى صدرت عن دار الجمل عام 1995) والتى كتبتُ عنها فى جريدة الحياة مقالًا ضافيًا بتاريخ 6/7/ 2005، وروايتيه «أصابع لوليتا» و«مملكة الفراشة» اللتين تتميزان بادئ ذى بدء- بسيطرة تقنية التناص وتغلغله فى نسيجهما العام، فرواية «أصابع لوليتا» هى رواية عن كاتب جزائرى يعيش فى منفاه الاختيارى الفرنسى، لكنه يقع فى غرام شابة جزائرية الأصل تشبه فى اندفاعها الطفلى وأصابعها الرشيقة المفعمة بالحيوية والنضارة المتفتحة كالوردة بطلة رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا». أما «مملكة الفراشة» فتنطوى على متناصات عديدة يشير فيها النص الحاضر إلى نصوص عديدة غائبة بما يؤكد نوعًا من التفاعل اللافت بين جدلية الحضور والغياب فى النص الروائى.
لمزيد من مقالات جابر عصفور;


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.