حضرتُ جنازة حماة أحد الأصدقاء الكوريين، فرأيتهم يقسمون مكان مراسم العزاء إلى غرفتين غرفة صغيرة فيها صورة المتوفى وأسفلها شموع وزهور، ومائدة طويلة عليها عديد من الخضراوات والأسماك والفاكهة وبعض المشروبات، وكل منها موضوع بطريقة معينة حسب مكانته عند المتوفى، فضلا عن نوع معين من مشروبات الأرز، أو الثمر الكورى المختمر من النوعية التى كان يفضلها المتوفى. والغرفة الكبيرة، فهى للمعزين، يلتفون حول موائد عدة عليها يأكلون. اعتقادا منهم بأن الطعام الذى يأكله المعزون يسدّ جوع المتوفى، والأسلاف الراحلين، وبتعبير آخر، هو إبقاء لفكرة الحياة موصولة بسد جوع الحاضر مع الغائب، كسلسلة غير مباشرة تنتقل من العالم المرئى إلى العالم الأكثر مرئية! .................................................. اعتاد الكوريون أن يأكلوا فى جماعات، وهو شعور غريزى جبلوا عليه كشعيرة مقدسة، كحالة من التحصن الجماعى لهزيمة الجوع الفردى، وأى تجمع أو اجتماع أو مناسبة أوعيد تجد الكوريين يتبعون الأطعمة التقليدية القديمة، التى تعنى فى جوهرها هزيمة الجوع، فالتجمع على الطعام تيمة تقليدية تقام حتى الآن كطقس محبب يُذكر الأجيال الحالية بماضيهم، وحياة أسلافهم البسيطة، الغارقة فى الأساطير والحكايات. وارتبطت صورة الجوع فى الذهنية الشعبية عند الكوريين بإطعام الجائع، ليس بملء بطنه فقط، بل بسد فجوات الروح لتتحرر، والجائع ليس بالضرورة إنسان حى، فقد يكون ميتا من أسلاف الأسرة، أو حراس الدار المتلبسين فى أشيائها، فلا غرابة إذن أن يحتفل الكوريون بالذكرى السنوية للأسلاف الراحليين (الأجداد) بوليمة كبيرة فيها أطعمة وفاكهة متنوعة، ومشروب الأرز المختمر. ويقدمون الأطعمة للأرواح والأشباح فى جوف الليل، ويتركونه على حواف الغابات، وعلى مدرجات الجبال وبجوار الأنهار لترويضها وتحقيق ما يريدون منها. وعبر الفنان الكورى عن الجوع الزمنى والمكانى الذى تعرض له البسطاء فى أشكال فنية تقدم واقع الجوع كمادة للتسلية، وتهدف لجمع المطحونين والجوعى، ليعبروا عن رغباتهم فى كرنفالية شعبية معروفة بطقس الأقنعة المتبادلة التى يرتدى فيها الكورى الكادح القناع ويطلق ينبوع الصراحة من داخله بلا قيد ولا حياء، وهى لعبة تحايلية على النفس لقول ما لا يقال فى حضرة السادة والنبلاء، كرسالة مباشرة، لتوصيل حال البؤس والمعاناة والجوع التى يعيشونها إلى أصحاب الأمر. ويذكر أن الجوع خرج من دائرة الروح وعالم الموت وأشباحه، إلى التجويع المباشر على يد المحتل اليابانى الذى نهب خير الكوريين بالكامل. ولم يترك لهم أى طعام على الإطلاق ليستطيع أن يسوسهم بالقهر والجوع. واستعاد الكوريون موروثهم الثقافى لسد فكرة الجوع، والتغلب على الأشباح التى تريد طعامهم، فحرروا الموروث من الاستكانة إلى براح الحركة، فى الوعى الجمعى الذى ابتكر أشكالا فنية وتعبيرية بشكل مباشر يناهض بها التجويع ومصدره. واستغنوا عن طقوس الطعام التقليدية إبان الاحتلال اليابانى والإفقار الجبرى والمجاعات التى فرضها المحتل خلال هذه الفترة من عام (1905-1945م)، وبحثوا فى الطبيعة عن أطعمة بديلة من الأعشاب الجبلية والبحرية، ومضغ أوراق الأشجار والنباتات، والتقوت بقواقع اليراقات والحشرات، وتناول الديدان المعششة فى سقوف الأكواخ. وتغلب الكوريون على المجاعات، ونجحوا فى تسجيلها مادة شعبية كإرث إنسانى حتى لا يتكرر مع أجيال قادمة. وهذا كان لب الحكايات الشعبية، ونصوص روائية حديثة تناولت تجويع الكوريين تحت الاحتلال، وفى أوقات الحرب الأهلية. وبقيت الحكاية الشعبية الكورية تحرض على قيمة الاستغناء، والبحث عن بدائل لسد الجوع بهدف السمو على نواح البطن، والعلو عليه بإشباع الروح كى يقوى العقل فى القضاء على كل أسباب التجويع. أما التصور الشعبى للجوع عند المصريين فقد جاء باعتباره «كافر»، وهى نظرة مصرية صميمة تعكس تصورههم المجتمعى عن مفاهيم الكون والحياة وطبائع البشر، وتصور تلقائى عن النفس وحياتها اليومية فى ممارساتها الوقائية ضد الجوع صاحب التاريخ الطويل والمرير فى حياة المصريين. وبالرغم من مواويل الأغنية الشعبية التى تصف خيرات مصر بالجنة والنعيم الأبدى، الذى لا ينضب إلا أنهم فى نفس الأغانى يسجلون برمزية ساحرة عن لصوص مصر. فقد ارتبطت أسباب الجوع عادة بالسلطة الغاشمة التى عانى منها المصريون فى عصور حكام مهووسين بمنطق الاستبداد، ومفهومهم المغلوط فى حكم المحروسة منذ احتلها الغريب. واعتقد الحكام أن سلطتهم تدوم على شعب مصر بالتجويع، وكان يُخيل إليهم إذا شبعت بطونهم اشتغلت عقولهم، ففكروا بإزاحة من يستبد بحكمه عليهم. وعمل حكام المحروسة على تعطيل العقول بتجويع البطون، لينشغل المصريون فى البحث الدائم عن القوت. وإذ توفر، يكون على قلة لارتفاع الأسعار والإتاوات والضرائب الجائرة وشيوع البطالة. وعلى نقيض المقاومة المباشرة، كانت جموع الشعب صامتة ومتحملة لحد مريب. رضخ المصريون ظاهريا لمنطق الوالى فى حلته «المملوكية أو العثمانلية» أو المحتل الإنجليزى. وتغيرت ممارسات التجويع حسب الزى التاريخى لكل مرحلة مرت بها المحروسة مع الولاة إلا أن منطق التجويع ونتائجه تكاد تكون واحدة، لا اختلاف فيها سوى بعض مساحيق اللين والشدة. وجنح المصريون جنوح الصابرين الأقوياء وهى الصورة المقلوبة التى رآها الولاة فيهم بأنهم ضعفاء، وكثيرا ما سمع وشاهد الولاة تهليل المصريين بهتافهم «الله يطول عمر جنابه» والتغنى باسم الوالى سنوات. لكن ما كان هذا إلا تصنعا وحيلة ابتكرها ابن البلد ليهادن الجوع وليس الوالى، وعلى نقيض المدح يأتى الذم والسخرية الشعبية من الولاة فى إطلاق ألقاب شعبية ساخرة عليهم من نوعية الوالى «قُلّه»!. وعلى سبيل الترميز، كسلاح ناعم للمقاومة، كان التنمر والاعتراضات التى يدونها الراوى الشعبى فى حكاياته وسيره وأمثاله الشعبية، فلم يفهم الولاة أن قلة حيلة المصريين وسخريتهم بلهجتهم العامية ما هى إلا تأصيل لمفاهيم البقاء والخلود عند أهل المحروسة حيلة لتشبيع الروح لسد رمق أبدانهم الممصوصة من الجوع و«هد الحيل». وأغلب السير الشعبية تؤرخ للجوع بشكل غير مباشر حتى غاب عن الراوى التحريض العلنى، وغاب عن جالسى المقاهى أن يثورا من ضنك الحال، وقلة ما فى اليد، ليبتكروا مقولة التحايل الشرعى «اللى يعوزه البيت يحرم على الجامع»، وأعتقد أن المصريين لهم السبق فى تنفيذ تلك المقولة حين يشتد واقع الفقر عليهم، كما يتزايد التمنى فى التشدق الدائم بمقولة الإمام على «لو كان الفقر رجلا لقتلته»، لتخرج العبارة من نطاقها المتفلسف العميق إلى نطاق آخر فيه من مرارة السخرية والتهكم من الأمانى، لأنهم يعرفون المتسبب فى تجويعهم وتفقيرهم. لكنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا معه فى الوقت الآنى، فراحوا فى المتخيل الشعبى يضربونه بالصرم، ويصورونه بأبشع الأوصاف والألقاب. ولا تخلو الحكايات الشعبية فى عصر المماليك من تصوير الوالى وعسكره، وهم يرهبون المصريين ويبتزونهم فى مقايضة صمتهم على الجوع مقابل حمايتهم من الأعداء وخوض معارك الحروب بدلا عنهم. وما عليهم إلا الصبر على ألاعيب شبح الجوع وشُح الموارد أو بمعنى أدق نهب الموارد لصالح فئة معينة، أطلقت عليهم الحكاية الشعبية «تنابلة السلطان». وبقت الحكاية الشعبية تتنقل من مقهى لخانة.. من مدينة لقرية. تقال هنا وهناك. حكاية مسلية فى ظاهرها. لكنها رمزية فى باطنها لا يفك شفرة متنها السردى إلا أبناء البلد حتى لو على المدى البعيد. وفى نفس السياق، حمل كل موال وأغنية ومثل شعبى شفرة ما يصعب فهمها فى حينها من قبل الوالى الحاكم وعساكره، فضلا عن كونها رسالة للأجيال التالية بأن تفهم وتعترض وتثور على التجويع. ولعل أشهر هتاف شعبى أطلقه المصريون فى عصرهم الحديث «إيش تاخد من تفليسى يابرديسى»، وبعد مائة عام كرر المصريون الهتاف بعدة صيغ أخرى من نوعية: «مش كفاية لبسنا الخيش.. جايين ياخدوا رغيف العيش»، و«الشعب جعان.. مش مرتاح». ليتكرر أيضا بعد ما يزيد على أربعين سنة ب «عيش حرية عدالة اجتماعية»! وكلمة مفتاح السر، فى الحكايات الشعبية هى الخبز الذى صوره الملفوظ الشعبى المصرى ب «عيش»، وهى هنا تفسر كل الترميزات والكنايات؛ لتؤكد أن منع الخبز - أداة التجويع - هو فى ذاته منع العيش « عاش/ يعيش أى الحياة». هى الرسالة المستمرة والمتكررة، والتى عادة يفك شفرتها جيل فهم ووعى مسألة الترميز فى الحكاية الشعبية، فتتكرر ثورات المصريين فى هتافات الجوع ضد التجويع، وينقلبون على الوالى! وارتبط الجوع بحركات التحرر والتقدم الشعبى، والمتأمل فى فلسفة الجوع الكورى فى عصر الاحتلال والديكتاتورية يجد أنه كان حصن الكوريين لبناء وطنهم. بينما الجوع فى الثقافة المصرية فهو قصة كفاح شعبى لكل عصامى مصرى أراد لنفسه تغيير واقعه فحسب، أما المجموع فكل وشأنه. فى المقابل تعامل الكوريون مع الجوع من منطق الرفاهية المكملة للحياة فوجب الاستغناء عنه لحين تحقيق الحياة لهم. أما المصريون فقد تعاملوا مع الجوع بنظرة ساخرة فيها تهكم من العصر وشخصياته ورموزه فانقلبوا عليه وعليهم. لكن انقلابا بلا جدوى، ليبقى دائما رمزا فى متن الحكاية الشعبية لم يتحقق بعد على طريق التقدم. لم يختلف المنظور الثقافى للجوع عند المصريين والكوريين عن كونه مادة وجودية غليظة. يجب التخلص منها، وهنا يقبع الاختلاف المصرى والكورى فى جوهرية التخلص من الجوع وتخطيه فى اللحظة الآنية وبأيدى الجيل الجائع، فيهب ويخلص نفسه من الجوع، ليحقق ذاته وللأجيال القادمة شبعا مؤسسا على فكرة عدم العودة للجوع، أو الصبر عليه والتهادن معه إلى حين حدوث اللحظة الفارقة لتخطيه التى قد يمنحها عنصر المكان والزمان لمجموعة شعبية طفحت الكيل ويئست من المسكنات الرمزية والحيل الشعبية، فيثورون على الجوع ليصحوا. وبين التخيير (أو) وما قبله وبعده. تكمن أسرار التقدم والتقهقر.