كنوز التراث يزيدها دائما ما يؤخذ منها, ولكن بعضها كتب له الخلود ونفد من سهم الزمان والمكان وأصبح يجري به كل لسان,وفي مقدمة هذا التراث الإنساني الزاخر بالحكمة والطرافة والضحك يأتي اسم جحا مقترنا بنوادره لتتحول هذه النوادر الباسمة إلي حكم عقلية تتلون علي مر الزمان واختلاف الأمم, لتبقي ما بقي الناس في الماضي والحاضر والمستقبل.. رضاؤهم جميعا غاية لا تدرك.. واستطاع جحا بشهرته التي بلغت الآفاق أن يدلل علي ذلك من خلال تراثه الذي تسلل إلي الوجدان الشعبي عبر مئات السنين فكان فيه ما يمتع ويفيد.. عاش اسم جحا عبر العصور لأن نوادره تكشف النقاب دائما عن حقيقة النفس الانسانية وشخصيته يتجلي فيها كل مواطن التحرر من القيود والتقاليد المقيتة التي تمنع من الانطلاق ومواجهة الحقائق واستخلاص الحكمة المصفاة ولو بشيء من التهويل والغفلة الظاهرة من جانبه.. عاشت نوادر جحا لأننا لو جردنا هذه النوادر من الأشخاص والأماكن فإننا سنجد فيها لا محالة شبيها في كل عصر, لذلك قيل عنه إنه ضاحك الأسلاف والأجيال المتعاقبة ولو خلا العالم من أمراء السخرية والضحك لأصبح جحيما لا يطاق.. فالضحك يجدد نشاطنا ويرفع معنوياتنا ويعيد ثقتنا بأنفسنا وفقا لتحليل برجسون لوظيفته, وتأتي حكايات جحا لتصور شخصيات ضعيفة أو منحرفة لتجعلنا نتصور في كل حكاية أننا أفضل من هذه الوجوه جميعا وأكثرها استقامة وعدلا وصلاحا.. لا نخوض فيما يخوض فيه الناس.. فنحن أكمل الناس خصالا.. ولكن من هو جحا وما سبب ذيوع هذه الشهرة؟ جحا في الأدب العربي هو لقب أبوالغصن دجين أبن ثابت من قبيلة فزارة بالكوفة.. عاصر أبي مسلم الخراساني وكان يضرب به المثل في الغفلة والحمق ويتجاهل استهزاء الناس به وسخريتهم من أفعاله.. جمعت نوادر جحا في كتاب يحمل هذا الاسم, لكنه ظل مجهول النسب وإن أشار إليه ابن نديم في كتابه الشهير الفهرست ويتوالي ظهور الشخصية الجحوية التي تروي الطرائف وتنطلق بالنوادر المضحكات في كل الآداب العالمية تقريبا.. في الأدب اليمني يعد المعطري هو المعادل لجحا المصري مرورا بأرتين جحا الأرمن الذي روي عنه أن أحد البخلاء كان موشكا علي الغرق فسمع المارة يقولون له هات يدك فقال لهم أرتين ساخرا لا تقولوا له هات إنه ينفر من ذلك ولكن قولوا: خذ ايدينا أن كنتم تريدون انقاذه.. وهناك أيضا بات جحا ايرلندا وتل جحا ألمانيا وجورج جحا انجلترا.. اشتركت هذه الشخصيات الجحوية في ابراز التناقض الذي تحفل به النفس الانسانية ونسب إليها من الطرائف التي كانت في حقيقتها تعبر عن آراء منتحليها وأفكارهم أكثر من نسبتها إلي هذه الشخوص الحقيقية ومع مرور الزمن اختلطت هذه النوادر وأصبح من الصعب التمييز بين الأصل والتقليد, ولكن يظل جحا التركي أكثرها شهرة بعد جحا العربي وكان يعرف بالشيخ نصر الدين خوجة وهو صاحب كرامات عاش في مدينة آق شهر ومات فيها ويقال إن الضحك من مراسم زيارة قبره إلي يومنا هذا ومن لا يفعل ذلك تحل به كارثة من الكوارث! وقد عاش في عصر السلاطين السلاجقة وعاصر تيمور لنك وبمرور الزمن تحول لقبه من خوجه إلي جحا, وفي الأدب الفارسي رويت بعض نوادر جحا في بعض كتب التراث وبعضهم يعتقدون أنه فارسي الأصل واسمه الحقيقي الملا ناصر,أما الألمان فكانوا يرون في شخصية تل الجحوية دليلا علي أنه كان ريفيا سليم الفطرة يسخر من غرور أهل المدن ويستدلون علي هذه القصة في تراثهم: سأل أحدهم تل: كم من الزمن يلزمني للوصول إلي مدينة كذا؟ فقال له تل: سر في طريقك فحسبه الرجل لم يسمع فأعاد السؤال وأعاد تل نفس الجواب فغضب الرجل وقال له: أجب عن سؤالي يا غبي.. ثم تركه ومشي في طريقه يكيل له اللعنات وابتعد عنه قليلا هنا صاح تل وطلب منه أن يتوقف وألقي إليه بهذه الحكمة بهدوء الفيلسوف: إذا سرت علي هذا النهج بلغت المدينة بعد ساعتين, لم يشأ جحا الألماني الافتاء في الأمر دون تبصر مدي اتساع خطواته.. وربما كانت هذه الميزة الانسانية من أهم خصائص الشعب الألماني في جديته والتزامه وإذا كان يقال عن الكتب ما قاله ابن اسحاق: إنها لا تحيي الموتي ولا تحول الأحمق عاقلا ولا الغبي ذكيا.. لكنها تشحذ الذهن وترهف النفس, فمن المقطوع به أن نوادر جحا التي جمعت وإن كانت مجهولة النسب تعد قراءتها رحلة ممتعة في أعماق نفس صافية لا يخرج الإنسان منها كما دخل.. وقديما قال الشاعر العربي: صار جدا ما مزحت به أو رب جد ساقه اللعب ولعل العصر الذي عاش فيه جحا.. أفاض عليه من ثرائه وتنوعه ما جعل هذه النوادر خليطا رائعا من الحكم والمعارف واستخلص منها اسئلة تطلق العنان للخيال والقدرة علي التحليق بعيدا عن التوتر النفسي بابتسامة تكشف مغزي النفس الانسانية وطبيعتها التي لا تتغير بتغير الزمان. ظلال جحا تكتمل المفارقات في شخصية جحا بثلاث شخصيات ملازمة في معظم نوادره: زوجته العنيدة.. كثيرة الشجار.. وابنه الذي يترسم خطي والده وحماره في استسلامه عن طيب خاطر وإطراقه لجحا وهو يبث له مواجعه وشكواه ويري فيه وفاء أكثر من بعض البشر, فهذا مشهد يستنطق فيه طبيعة البشر حين خرج من المدينة راكبا حماره وبجواره ابنه فأشار الناس عليه واستنكروا قسوته علي ابنه فنزل عن حماره وأجلس ابنه مكانه.. فأشاحوا بوجوههم عن ابنه العاق الذي ترك أبيه يتجشم عناء السير علي قدميه.. فقرر أن يترك الحمار وشأنه دون أحمال وسار هو وابنه بجواره, فقال المارة: ما هذه البلاهة يا جحا كيف تسير علي قدميك وأنت تملك حمارا؟ وهكذا الناس لا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب وأصبح مثلا شائعا ومرة أخري كان علي قارعة الطريق وداهمه الجوع فجلس يأكل من طعامه وزاده بعد أن نزل عن حماره وتركه يسعي علي راحته فمر به رجل يعرفه وقال له: هذا لا يليق بك وبفضلك وعلمك وأن ذلك يحط من قدرك في أعين الناس! فقال له جحا: هؤلاء ليسوا بناس ولكنهم بقر وتجادلا فاسعفته بديهته الحاضرة التي قلما تخذله عن الأتيان بالحجة الرادعة ونادي بأعلي صوته قائلا: أيها الناس أني واعظكم فاستمعوا فأقبلوا من كل صوب وقال: بني آدم كالأنعام وأضل وأنتم حطب جهنم.. فتأثر معظمهم فأفاض عليهم من حكمه حتي قال: أيها الناس لقد جاء في الأثر أن من اخرج لسانه فضرب به أرنبه أنفه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فما بقي أحد منهم إلا وقد أخرج لسانه وراح يحاول أن يضرب به أرنبه انفه.. يقول جحا: فالتفت إلي صاحبي وقلت له أنظر أيها الأحمق, هؤلاء بشر أم بقر! الشخصية القومية العربية لا تنتهي صولاته وجولاته مع الناس فكان يري أن الحق إذا ضاع بين قوم فلن تستطيع أن تقيم بينهم وفيك بقية من عقل.. فماذا يجدي العقل إذا كانت الأمور تجري بأضدادها والأوضاع معكوسة وكل شيء يؤخذ بنقيضه؟ فإذا أذنب غيرك كنت أنت المذنب وإذا أساء سواك كنت أنت المجرم وإذا صنعت الخير قالوا: أنك من المغفلين وفي النهاية لا تسلم من ألسنتهم من هنا يري د.إبراهيم عبدالحافظ رئيس قسم الأدب الشعبي بالمعهد العالي للفنون الشعبية أن شخصية جحا بمرحه وسحره ومآثره في التراث جعلته في صدارة الشخصيات القومية العربية, فهو مثال للإنسان الذي يعيش حياته بطلاقة يعبر عما بداخله ويرمز له باشارات وخلاصات انسانية وصلت لبعض الأقطار الأوروبية وامتازت شخصيته الفذة بالتعبير عن حكمة فقدان المعايير الصحيحة في المجتمع وسخريته من بعض الكبراء الذين لا يستحقون المكانة التي وصلوا إليها.. وهو حكيم من الحكماء لأنه اكتشف بطريقته العبقرية أن الانسان في مواجهة أعباء الحياة لابد أن يتحلي بالضحك وروح الدعابة.. فاخترع بطريقته أسلوبا للخروج من المكابدة والعناء إلي الضحك والسخرية فالمأساة تتحول إلي طرفة من الطرائف وربما كان ذلك من أهم أسباب شعبيته لأنه كان دائما معبرا عن الزاوية النفسية للشعوب العربية التي توالت عليها صنوف القهر فتعلمت أن تخرج من الأزمة منفرجة الأسارير فهو الساخر الحكيم.. وهو من أبرز الشخصيات البارزة في الأدب الشعبي المقارن عالميا.. فالاسقاطات واستعمال الرمز منح هذه الشخصية فضاء انسانيا يتجاوز الزمان والمكان شأن شخصيات شكسبير بهذه العبارة يختتم د.إبراهيم حديثه عن هذه الشخصية العجيبة التي تواجه مهابة السلطان بروح الفكاهة فقط دون سواها ثم تكسب الجولة. الجواب الشافي مثالية جحا كانت تناشده البحث عن العدالة والمساواة حين تكون المساواة شرفا يرتفع بها الأدني إلي أعلي وتعطي أصحاب الشأن حقوقهم ولكنها تأبي الجور علي حقوق الغير أي حين تكون انصافا للفطرة السليمة القائمة علي التفاوت والتنوع ولكنها تسعي لانصاف الحق والخير, من هنا كانت هذه النوادر تعد مقياسا لإبراز الصواب من الخطأ.. وربما كانت ملكة السخرية لا تقل عن عبقرية تجميل الحياة وتثقيف النفوس علي حد تعبير العقاد في حديثه عن سيكولوجية الضحك القائمة علي شعورنا بالرضاء عن النفس لأننا نحس بكمالها وسلامتها من النقص الذي تكشفه في الآخرين.. إضافة إلي أن الضحك اجتماعي الغاية فقلما يضحك انسان علي انفراد إلا ساورنا الشك في عقله مالم يكن لديه استحضار لهذه العلاقة الاجتماعية في ذهنه. سئل جحا يوما عن بعض المتنطعين وهددوه بالقتل إذا لم يمنحهم جوابا شافيا واحدا عن أربعين سؤالا.. فانتظر حتي سمعها جميعا وتظاهر بالجدية وقال: أتريدون جوابا واحدا عنها جميعا؟ قالوا: نعم.. قال: لا أدري فكانت هذه الكلمة الحكيمة هي الجواب الشافي الذي انقذه.. فهكذا ارتبطت شخصيته بالبلاغة الغريزية التي تتولد من وحي اللحظة والتي يرقي فيها الجدال لمستوي البرهان وهكذا, وشق له طريقا يضمن له البقاء الآمن بين الناس بطريقة ترضي البعض لكنها قد تدهش البعض الآخر. ويظل الضحك هو أقصر مسافة بين اثنين.. ويضحك الانسان طويلا ويتأمل بعمق واقعه علي هدي الكثير من حكايات جحا وقد ارتبط اسمه بالسلطان والقضاء في العديد من النوادر.. فحين جلس في بعض الحالات في مجلس القضاء في مكانة الحكم بين الناس أدرك بفطنته بعيدا عن كتب القانون أن القاضي لا يحكم بعلمه أو مزاجه الخاص ولكنه يحكم بناء علي ما بين يديه من دلائل وشواهد.. فحين احتكم إليه مختصمان يدعي أحدهما علي صاحبه أنه أكل خبزه علي رائحة شوائه ويطالبه بثمن الشواء الذي لم يأكله.. سأله جحا: وكم ثمن الشواء الذي أعددته له؟ فيجيب: ربع دينار.. فيأخذ من الرجل المتهم ربع دينار ويسمع الشواء رنينه ثم يرجعه إلي صاحبه قائلا: إن رنين المال, ثمن كاف لرائحة الشواء. منزلة الأكابر يحكي جحا: كنا في مجلس تيمور لنك نتحدث عن البلاد التي فتحها والجيوش التي أبادها والخلائق التي أفناها وسأل أحد الحاضرين قائلا: كم من الزمن سيمر حتي يعوض العالم من المولودين ما فني.. فكأن ذكر المولودين اساء إلي تيمور لنك الذي لا يسره إلا أن يسمع أخبار الموت والقتل والفتك فنظر إلي وسألني في حدة: إلي متي يلد الناس ويموتون يا جحا؟ قلت: حتي تمتلئ الجنة والنار؟؟ يا مولانا السلطان, فقال في لهجة أشد: وأين تراني يوم القيامة بين أهل الجنة والنار؟ قلت: أنك يا مولاي لاشك في صدر أهل النار فتجهم وجه وبدا عليه الغيظ وهز سيفه بيده كأنه يريد أن يفتك بي ثم قال: ماذا تقول يا جحا؟ قلت: يبدو لي يامولانا أن تلك منزلة الأكابر فقد جاء في القرآن الكريم أن فرعون وهامان وكل ملك جبار مخلد في النار وأنت ولاشك علي رأس هؤلاء الجبابرة.. فانفرجت اساريره وظهر عليه الرضا والسرور وأدركت أن تلك طبيعة كل جبار لا يرضيه ولا يسعده إلا أن يكون علي رأس الجبارين ولو في النار. عزة الحمير يستطرد جحا في سرد نوادره ويذكر أنه كان ينظر ذات يوم إلي حماره وهو يسير مختالا ويقول: شعرت في هذه اللحظة أن الحمار لم يكن ذليلا في نفسه وإنما ذل الحمار ومهانته من ذل الإنسان له علي طول السنين, وقد ساعد علي هذا تواضع الحمار وطول حلمه وصبره, والناس دائما أشد ما يكونون قسوة واحتقارا للمتواضع الصبور. وقلت في نفسي: إنني مخلوق وهذا الحمار أيضا مخلوق بل هو يمتاز عني بأنه لا يحقد ولا يبغض ولا ينافق ولا يغدر ولا يكذب وهو منزه عن كثير من المثالب التي تنطوي عليها جوانح الإنسان.. وخرجت من هذا التفكير معاهدا الله علي أنه مثلي له حريته وعزته ورأيه وتقديره.. فسرت ممسكا بلجامه وقلت هذه الشدة لا تليق فلابد أن أطلق له الزمام.. وسرعان ما نفذت الأمر ورفعت اللجام من فكه ولكن الملعون سرعان ما انطلق في الطريق علي غير هدي وهو يخبط هنا وهناك وأصبح همي الأوحد المحافظة علي حياتي من الخطر وأصبحت عاجزا تماما عن كبح جماحه بعد أن تركت الزمام من يدي. فرآني أحد أصدقائي وأنا علي هذه الحال, لا أدري إلي أين اتوجه.. فقال: إلي أين يا جحا؟ قلت: إلي حيث يريد الحمار ما دمنا قد رضينا أن نعيش بعقل الحمير! وهكذا كانت معظم حكمه البليغة تنتهي بقوة لا تنم عنها البداية البسيطة التي يصعد بها إلي صفوة القول والأمثال والحكمه المرسلة. السؤال يكشف نفسية السائل اعتاد جحا علي فضول الناس وأهل الغباوة في عصره وسئل عن أشياء عديدة بهدف وضعه في موضع الاختبار وفي كل مرة كان يجيب السائل بما يكشف عن نفسيته أكثر من منحه الجواب الشافي. فسأل أحدهم: هل صحيح يا جحا أن القناعة كنز لا يفني؟ فقال: أجل ولكنه كنز لا يطعم جائعا ولا يكسي عاريا وهو لا يوجد إلا عند الذين لا يجدون. ابداء النصيحة مات حاكم بلدتنا فسألوني أن اقرأ علي قبره وألقنه فقلت: ذلك رجل عاش في حياته لا يقبل مني نصحا وما أحسبه قد غير طبعه في مماته. العثور علي المفقود ضاع حماري فأخذت أنادي الناس: من وجده فليأخذه فقالوا: إذن لماذا تجهد نفسك في السؤال عنه؟ قلت: لأن في العثور علي المفقود لذة لا تعدلها لذة. أخيرا.. جحا تراث يؤثر الحكمة أينما وجدت وما أحوجنا إليها الآن.. وجحا نوادر ينطبق عليها ما قيل في فضل أي كتاب نافع: ان عزلت لم يدع طاعتك.. وإن هبت ريح اعاديك لم ينقلب عليك.. نوادر جحا فيها بلاغة إذا استنطقتها وامتاع يعمر النفس وجد يحتمل الهزل وتناقض لا تخلو منه النفس.. وهل الحياة غير ذلك؟