قُبيل سويعات من الذكرى الثانية لثورة الثلاثين من يونيو لعام 2013، وتحديدًا صباح يوم التاسع والعشرين من يونيو عام 2015 ميلاديًا الموافق الثاني عشر من رمضان لسنة 1436 هجرية، خرج المستشار هشام بركات كعادته من بيته قاصدًا القاهرة الجديدة حيث مكتبه الذي اعتاد أن تطأ فيه قدماه منذ أن تبوأ منصب «محامي الشعب» في العاشر من يوليو لسنة 2013، لكن هذا اليوم لم يكن كغيره، فقد اغتالت جماعة لا دين ولا وطن لها روحه الطاهرة ليلتحق بمن سبقوه من الشهداء الأبرار في سجل نصاع البياض، ويصعد إلى بارئه صائمًا بعد خدمة مصر وشعبها كنائب عام طيلة عامين قضاهما غير آبة بإجرام جماعة إرهابية حاقت به المكر ودبرت لاغتياله أكثر من مرة. برحيله، فقدت مصر أحد رموز القضاء البارزين، وأعلى مسؤول مصري يُغتال منذ اغتيال رئيس مجلس الشعب الدكتور رفعت المحجوب عام 1990.. ورغم تكرار محاولات استهدافه، لم تهن عزيمته، ولم يرتعد قلبه، بل ظل صامدًا كالجبال الراسيات، فمحاولات استهدافه لم تفتّ في عضده أو تضعف من عزيمته، ولم يرتعد ولم يهب الموت رغم نجاته من استهدافه مرتين من جانب الجماعة الإرهابية بعبوات ناسفة، إلى أن تم اغتياله في المرة الثالثة بتفجير موكبه ما أدى استشهاده متأثرا بجراحه جراء التفجير، لتخضب دماؤه أرض مصر وترويها فتطرح أمنًا وسلامًا لتحيا مصر، تاركًا خلفه تاريخًا مشرفًا من العدالة والولاء للوطن، فنجاته من الاستهداف لم تفتّ في عضده أو تضعف من عزيمته، حتى لحظة استشهاده. الرئيس السيسي في وداع المستشار بركات: «استشهد لتعيش مصر» في جنازة عسكرية مهيبة، ودّعت مصر رجلًا عاش من أجلها، وفي مقدمة مشيّعي جثمان «شهيد العدل»، قال الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي لم ينسَ يومًا رجال مصر الأوفياء: «الشهيد هشام بركات استشهد لكي تعيش مصر»، وأضاف: «نحن أيضًا مستعدون أن نسقط لتبقى مصر». واختتم الرئيس السيسي، حديثه بتوضيح معنى النائب العام في نظره، قائلا: «النائب العام بالنسبة لي صوت مصر ومصر محدش يقدر يفككها لكن احنا مش نقدر نعمل ده غير بالقانون». وصية «شهيد العدل» لأسرته في إحدى المناسبات قبل فترة طويلة، التقيت نجله المستشار محمد هشام بركات، وسألته عن وصية والده، فقال بكلمات يكسوها الحزن وقلب يعتصره الألم، إن أباه أوصاه أن يقف دوما مع الحق وأن يكون ظهيرا للمظلومين، متابعًا: «قال لنا والدي لا تسايروا الباطل، وصونوا ضمائركم. أعظم درجات الشرف أن تكون صوت المظلوم وسيف العدالة، حتى لو كلّفك ذلك حياتك.. لا تزال كلماته محفورة في قلبي وعقلي، وخاصة حين قال: كونوا رجالًا.. لا تجاملوا على حساب الوطن». «فارس» في محراب العدالة تغرغرت عيناه بالدموع وهو يتحدث عن والده، لكن ابتسامة خفيفة كانت تزين وجهه، رغم عِظم المصاب، فدُهشت فأجابني المستشار محمد هشام بركات قائلا: «كان أبي بسامًا، فضحكته لا تزال تعطر جنبات البيت. رحل بجسده، لكن روحه لم تغب لحظة.. في ذكرى استشهاده، لم يغادر جسده فقط، بل ارتفعت مكانته وعلت رايته في سجل الخالدين. لم يكن قاضيًا عاديًا، بل فارسًا في محراب العدالة. كان أبًا نقي القلب، صادق الكلمة، وعادلًا حتى داخل بيته.. في كل مرة يمر فيها هذا اليوم، يزداد قلبي وجعًا، وتزداد روحي فخرًا... فقد علّمني أن الرجولة موقف، وأن الموت في سبيل الحق حياة». «بركات».. في ذاكرة لا تُنسى حين سألته عن شعوره كلما تذكّر والده، قال: «لم أنسه ولو لوهلة، فقد كان قدري، ومعلّمي، وبطلي الذي سقاني حب الوطن دون كثير كلام.. كان جبلًا راسخًا، صبورًا، لا تهزه العواصف. أحببته حبًا لا يوصف، وأدعو الله أن ألقاه على باب الجنة كما كان دائمًا يمسك بيدي وأنا طفل». مسيرة حافلة في خدمة العدالة وُلد المستشار هشام محمد زكي بركات في 21 نوفمبر 1950، وتخرّج في كلية الحقوق عام 1973. شغل العديد من المناصب القضائية، منها وكيل للنائب العام، ورئيس بمحكمة الاستئناف، ورئيس المكتب الفني بمحكمتي استئناف الإسماعيليةوالقاهرة. وفي يوليو 2013، أدى اليمين كنائب عام أمام الرئيس المؤقت المستشار عدلي منصور، ليصبح ثالث نائب عام بعد ثورة 25 يناير. أول نائب عام بترشيح قضائي كان المستشار هشام بركات أول نائب عام يتم اختياره من خلال ترشيح مجلس القضاء الأعلى، وليس بالتعيين المباشر من رئيس الجمهورية، وفقًا لما نص عليه الدستور الجديد، ما يعكس احترام الجمهورية الجديدة بقيادة الرئيس السيسي لاستقلال السلطة القضائية. صورته محفورة في ذاكرة الوطن مرّت عشرة أعوام على استشهاد المستشار هشام بركات، ولا تزال ذكراه حيّة في قلوب المصريين، فلم يكن مجرد قاضٍ، بل كان أيقونة وطنية، قدّم حياته فداءً للعدل، وضرب مثالًا نادرًا في حب الوطن حتى الرمق الأخير، لتظل ذكراه محفورة في ذاكرة المصريين.