برع المصريون القدماء في تخصيص حكاية شعبية أقرب للأسطورة لكل آلة موسيقية، حيث كانت الموسيقى حاضرة بشكل طاغ في طقوس معابد الآلهة، وفي القصور، وتعدت الديني والرسمي إلى الإيقاع الشعبي لتعبر عن سعادة وشجن البسطاء من المصريين، وصاحبتهم الموسيقى في مواسم الزرع والقلع، والاحتفالات المبهجة أو الجنائزية، وكان لكل آلة نغم معين، حسب حالة الشجن التي تعتريه، فنحت الفلاح من «غاب النيل» نايّا يبث ألمه في ساعات «العصاري والأصيل»، أخذه من حافة شط النيل والترع، وحفر فيه فتحات لينفخ فيها، ويخرج نغمات شجية، فلا تدري أيهما يمنح قبلة الحياة للآخر.! ........................................ على الشط الآسيوي الشرقي مجتمع مماثل للمصريين. فلاحون استعانوا بنبت النهر والجبال، ليبثوا فيه بعضا من ولع الحياة كقوة يستعينون بها على مشقة الزرع، عُرِف هذا المجتمع باسم «بلاد الصبح الهادئ» والجبال الأنيقة والسهل الرحب. قطعة من اليابس الآسيوي اسمها «شبه الجزيرة الكورية»، حيث عرف الفلاحون الكوريون الموسيقى، وتشابهوا مع المصريين في «الناي» أو المزمار الكوري (بِلُّوتِهِ/ 플루트) وفي نقر الطبل، كرفيق مستديم لشجن الجماعة البشرية التي تعيش على ما تجود به الأرض وما يبثونه من بذور الحكمة حتى يتكلم الخشب، وكانت الرَّبابَة التي تشير المصادر التاريخية إلى أن قدماء المصريين هم من اخترعوها، وانتقلت منهم إلى العديد من مناطق العالم، وعرفها الكوريون باسم «هَهَ كِيِمْ 해금»، وفي إيقاعها وحّدت الموال الشعبي لدي المصريين والكوريين. اعتقاد الأجداد المصريين، والأسلاف الكوريين، بأن الموسيقى ميراث لا يندثر، جعلهم يمارسونه وكأنه أمر واجب لابد أن تتبعه الأجيال في كل مقومات حياتهم ومعاشهم في السراء والضراء، لم يخلُ أي احتفال مصري أو كوري من بهجة الموسيقى وإيقاعاتها «الكرنفالية» المصحوبة بالطعام والشراب والاستماع والاستمتاع. فضلا عن أنهم اعتبروها لغة أرواح الأسلاف الحارسين بوابة النهار والليل، والبر الغربي، أينما دخلت فتحاكيك بنبر وإيقاع خلاب يدعو للتدبر في ماهية الوجود. من الثابت، أن عادات الاحتفالات الموسيقية في مصر الفرعونية لا تكتمل إلا بشعيرة الموسيقى سواء في «مزاجها» الشعبي أو الديني أو بلاطها الفرعوني، وليكن احتفال شم النسيم مثالا، الذي لا تتم بهجته إلا بالعزف وتناول أطعمة خاصة، فكان يزداد قرع الطبول وتراقص الناي «على غير عادته» وميل وتر«الهارب» الحربي لتقترب إلى التيمات الشعبية الراقصة، وعليه ابتكر المصري القديم، وأضاف له العديد من الأوتار ليتماشى مع مستجدات بهجة الاحتفالات، مع تنوع آلات النفخ لتخرج من حالة النفير والبوق الحربي لتتمايل طربا، وتكتمل روعة حضارة الموسيقى الفرعونية بآلات الجرسية المعروفة ب «مزاهر إيزيس» لإحداث الجلبة المنتظمة التي تمنح الحياة بتعقل وتدب فيها النبض. إنها الموسيقى الفرعونية المصاحبة لطقس كرنفالي عظيم لم يبق منه إلا الطقس الغذائي المصاحب له من فسيخ وملوحة وبصل أخضر وليمون مع التشكيك في صحة الطعام والاعتماد على تلويثه، مع وأد بهجة الموسيقى.. ومن الإهمال والتجهيل ما طمس! وعلى غير ما صار من الأجيال المصرية التي وأَدت ميراث موسيقاها واحتفالاتها العتيقة، تأتي عادة الكوريين بإصرارهم على استمرار سُنّتهم الحسنة في اتباع الطقس الكرنفالي كاملا وممارسة شعيرة الحفل على صعيد الطعام التقليدي والموسيقى المصاحبة للاحتفال، فلا غرابة أن ترى في أعياد الحصاد الكورية مهرجانات تقام في قلب العاصمة وفي شوارع المدن والقرى عزفا موسيقيا بنفس الآلات القديمة مع ارتداء الملابس التقليدية وتناول نفس الأطعمة كنوع من بعث الحياة والشكر للأسلاف على نعمة التواصل وما تركوه للأجيال الحالية. ليس هذا فحسب، بل تقام الاحتفالات الرسمية في المسرح القومي الكوري لتعزف أله «كَاياكُم»، التي ابتكرها الملك «كا شيل 가실» منذ أكثر من ألف وخمسمئة عام، وهي آلة موسيقية وترية تراثية أعادوها للحياة مرة أخرى- وهي قريبة الصلة والشكل مع الهَاَرْبْ المصري القديم-، والطريف في الأمر تقام حفلات كورية تجمع بين هاتين الآلتين المصرية والكورية. ومازالت إلى الآن تنظم كوريا الجنوبية مراسم وطقوس الاحتفالات التذكارية والدينية بشكل جماعي وشعبي غاية في التلقائية؛ ليغني الناس ويرقصوا ويعزفوا على آلاتهم القديمة بهدف صناعة البهجة التي كان يشعر بها الأسلاف وبعثهم من جديد في بث نفس الإيقاعات على الآلات ذاتها. كما حرص الكوريون كنوع من الحس الثقافي على تصميم هذه الآلات بشكلها التقليدي بأحجام مختلفة كي يتمتع بها الصغار ويقتنيها الكبار، لتزين أركان بيوتهم. وهو نوع من أنواع التأكيد على التمسك بالموروث. وهكذا نجد أن الموسيقى ظلت دوما ذات تأثير على حياة المصريين والكوريين، أي أن الموسيقى كانت دوما قناة مهمة لفهم التاريخ والثقافة والتراث الشعبي. إن ما يجمع الشعبين المصري والكوري ليس تاريخا عريقا فحسب بل العديد من الجوانب الإنسانية والتراثية المغروسة في الحس الشعبي، حيث توحدهما الموسيقى التقليدية سواء على الصعيد الشعبي أو على مستوى القصر المصري القديم أو الملكي، وفي الحالتين أنتجا أنواعا مختلفة من الأنماط الموسيقية الشعبية والصوتية والدينية والشعائرية وعليه فكان ابتكار العديد من الآلات الموسيقية التراثية وتشابها بين الجانبين التي للأسف اندثرت على المستوى المصري وتم إحياؤها في الجانب الكوري؛ حيث تقام العديد من الحفلات لإحياء هذا الطقس الموسيقي القديم بنفس آلاته من آلاف السنين. وتبقى الدعوة للعموم، لماذا لا يتم إعادة إنتاج الآلات المصرية القديمة بشكلها وبدائيتها وتطورها لتكون متاحة لتزين ثقافتنا وبيوتنا والعمل على إحياء كرنفالاتها بشكل جمعي وشعبي في شوارع القاهرة والمدن، وعلى شواطئ النيل؟!