فى مصر الجلباب الصعيدى أو الفلَّاحى أو القاهري، و«الهان بوك» الكورى المزركش، واقُرص القمحب رحمة ونور فى صباح العيد للأحباب الراحلين، وفى كوريا «قُرص الأرز» عهد ومحبة للأجداد والأسلاف. وعودة الغائب من سفره إلى مسقط رأسه سواء فى القرية من أجل المعنى الحقيقى ل «لّمة العيلة» فى الأعياد. ومفردات اللبس الجديد، والمأكل والمشرب، والبهجة، ولمّة شمل العائلة، وزيارة القبور، كلها مشتركات بين المجتمعين المصرى والكوري، ومثلها تتشابه عبارات التهنئة مثل «كل سنة وأنتم طيبون» أو «عيد أضحى مبارك» أو «عيد سعيد» بالعربية الفصحى واللهجة المصرية. وتتضفر فى اعيد شكر سعيدب أو «عيد حصاد ممتع» بالكورى وبلهجة الفلاحين «تشيل كون تشوسوك ديه سو يو»، هذه العبارات المشتركة تعكس وعينا بتراثنا الشعبى وطرائق احتفالنا بأعيادنا. والتحضر والتقدم والنهضة لا يكون إلا باستغلال هذا الميراث الشعبى إيجابيا. والعادات والتقاليد الشعبية تُجسد بهجة العيد بزيارة القبور وتجدد ذكرى الراحلين، وكل له طريقته الخاصة فى فهمه التراث، لتخرج عبارات التحية والتهنئة والمباركة بالأعياد، وإن اختلفت صيغها غير أن مدلولها ومظهرها ومخبرها واحد، فلا اختلاف بين مصر وكوريا فى ثقافة الملبس والمأكل والمشرب وارتباط هذا بثقافة التجدد واستمرارية الحياة بإعادة شعيرة قديمة استمرت آلاف السنين فى احتفالها السنوى بالأعياد سواء على الطقس الشعبى أو الديني. كلها نماذج مشتركة حية مازالت تسعى بين الأجيال المصرية والكورية فى طرق احتفالاتهم بالعيد. لكن شتان فى تكريس القيمة بإضافة وعى جمعى للجيل الصغير وارتباط ذهنه ومخيلته بكرنفالية احترام الحفل وطقسه الشعبي، وإن رفضه عقل الجيل الصغير نظرا لتطور العقلية بين القديم والحديث. فى الشرق تبدو نفس القيم والعادات والمفاهيم حول صناعة البهجة شريطة الحفاظ على وقار الحزن، وهى سمات مشتركة جمعت بين الثقافة الشعبية المصرية والكورية، فكلا المجتمعين زراعى عاش حول نهر النيل فى مصر ونهر «الهان» فى كوريا الجنوبية. وجملة الأعياد فى المجتمع الزراعى النهرى تكاد تكون فطرية بطيئة أصيلة متجذرة فى طمى النهر والأرض المزروعة. عرف المصريون التقويم الفرعونى المرتبط بمواسم الزراعة، وهو نفس التقويم الكورى المرتبط بالسنة القمرية «سولال»، ويحتفل الكوريون بهذا التقويم إلى الآن، ويعتبر من أكبر الأعياد الوطنية. وعمل الكوريون بمبدأ البعث فى إحياء أعيادهم رغم مظاهر المدنية والتقدم، فيقلدون أسلافهم فى نمطية وبدائية الحفل، تكريسا لرمزية الأعياد الشعبية كنوع من كرنفالية الحياة التى يشترك فيها الأحياء والأموات. ووعيا باللحظة الراهنة وتنميتها بالأصالة والمعاصرة فى آن. وفى السياق نفسه وعى أسلافنا من المصريين فلسفة الاحتفال بالأعياد والتحضير لها وتنميتها من خلال استمراريتها فى ذهنية الصغار، فكثرة الأعياد عند أجدادنا تدل على مدى تطور حضارتهم وإحساسهم العميق بكل الموجودات وإشراكها فى احتفالياتهم، مثل رأس السنة الفرعونية وعيد الحصاد وعيد الفيضان. ويذكر التاريخ أن المصريين أسبق الأمم إلى إقامة الأعياد العامة والمواكب الكرنفالية، مع الحرص على المساهمة والاشتراك فى تلك الأعياد واستقبالها بمظاهر البهجة والسرور والاستحمام والتعطر وتفصيل الملابس الجديدة وتنظيف البيوت وإعداد ولائم أشهى الأطعمة. وتميزت الأعياد عند المصريين بالترف والمرح. والمفارقة أن عيد الحصاد الكورى «تشوسوك» وافق بداية التقويم الفرعونى هذا العام، كما وافق عيد الأضحى. واحتفل الكوريون بعيدهم، بينما نسى المصريون تقويمهم القديم. وعلى الرغم من التقدم الكورى بادر الشعب بمختلف طبقاته وثقافته بالاحتفال بعيد الحصاد «تشوسوك»، وهو يوم الحصاد الوفير عند الأجداد، والشكر لله، ويوم الأمنيات السعيدة لعام جديد. ويحتفلون به ثلاثة أيام متتالية، حيث تستعد له الحارات والأزقة ودروب القرية ومدقات الفلاحين بتعليق الزينة والفوانيس والشارات التى تدل على شعبية الحفل، ويرتدى الجميع الملابس الشعبية التقليدية التى كان يلبسها الأسلاف. ويبدأ الطقس الاحتفالى ب «لم العيلة»، التى تجتمع فى بيت كبير الأسرة، ويحملون الهدايا ملفوفة فى «صُرة» بنفس الطريقة المصرية القديمة فى حمل الأشياء فى «منديل أو ملاية» من القماش وتربط أطرافها، وأفخم المحلات وأغلاها تصُر الهدايا فى منديل قماش، ويعتبر الكورى الهدية الملفوفة فى «صُرة» بهذا الشكل تقديرا واحتراما له كنوع من التمسك والفخر بالتقاليد. وفى صباح العيد الكورى تجد الجبال ممتلئة بالزائرين من حاملى «الصُّرر» إلى القبور، لتقديم الفواكه الطازجة والأطعمة التى يتم طهوها من الحبوب الغذائية مع تقديم الشراب الشعبى من مشروب الأرز المتخمر على روح الأجداد. ويختزلون «بهجة العيد» بقولهم «فى الاجتماع ميلاد إنسان»، حيث يؤمنون بأن الاحتفاء بالطعام شعيرة حياتية لتأمل دورة الزراعة الأقرب لدورة تكوين الإنسان من مرحلة النطفة إلى موته، مثل دورة الطعام منذ كان بذرة إلى حصاده. وما بينهم العمل والاستواء والخضرة والحصاد، لذلك يقدس الكورى الزرع مثل المصرى القديم . وعلى المستوى الثقافى الكورى تم الاحتفاء بالموروث وأعدوا إنتاجه عبر الصحافة والدراما وتدريب الصغار عليه والفخر به لحد التيه. ولعل أقرب تكوين لهذا المفهوم «لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا» تلك العبارة التى سخرنا منها فى الدراما المصرية والإهمال المتعمد من كل مؤسسات الدولة فى طمس أو تشويه عاداتنا وتقاليدنا الشعبية. وعلى صعيد المطاعم الشعبية تقدم الأكلات بطريقة الطهى القديمة وتقدم فى أوان فخارية وصحون صاج أو خشب، والإقبال عليها بشهية عندهم هو نوع من استعادة معاناة جدودهم، وأيام الفقر والعزلة، وشد الحزام لتنهض كوريا، والاحتفال والطعام والرقص شعيرة مقترنة بالأعياد عندهم، حيث يتناول الكوريون فى الصباح وجبة اطوك غوكب أى اشوربة كعك الأرزب مع اسونغ بيون«، وهو نوع من كعك الأرز الكورى التقليدى المختلط ببذور السمسم والفول والكستناء، ويصنع على شكل هلال ونجوم بألوان الزهور والزرع، مع مشروب ابيك جوب المصنوع من الأرز. ويبدأ مهرجان الرقص اكانج كانج سولليهب ويتكاتف فيها النساء والأطفال فى دائرة ويغنون. وتعود هذه الرقصة إلى حقبة مملكة اتشوصونب الكورية القديمة، حيث تم إشراك النساء والأطفال فى الاحتفالية كنوع من التمويه العسكرى وقد ظن الأعداء أن عدد الجيش الكورى أكبر من جيشهم، وبهذه الحيلة الكرنفالية انتصر الجيش الكورى على أعدائه فى المعارك المصيرية. ومن طقوس العيد أن ينحنى الصغير للكبير بحب وتقدير ، لا انحناء مذلة، ويعلمون الأطفال فى الروضة الصيغ اللغوية للاحترام، وكيفية نطقها، وأدائها أمام الكبار بفلسفة أن الأب أو الجد أو الكبير هو واهب «نطفة الحياة» لك، وعليك ألا تنسى ذلك أبدا، وهذا يغرس قيمة الحياة وتقديسها واستمرارها، فإذا لم يحترم الصغير الكبير تنتهى الحياة ويفسد المجتمع وتضيع بهجة العيد. ويرحب الكوريون بإشراك الأجانب المقيمين فى احتفاليتهم وارتدائهم ملابس الاحتفال، و«الهان بوك» زيُّ أصيل تحتفظ به الأسرة داخل صناديق خشبية عتيقة، ويلبسونه فى الأيام العادية أو فى الأفراح والمناسبات العامة، فهو جزء من الهوية الكورية. فضلا عن إشراك الأجانب فى إعداد كعكة الأرز فى احتفالات الشوارع. كما تقيم قرية «بوكتشون» التقليدية وسط العاصمة سيول الفعاليات الثقافية المختلفة التى تشارك فيها العائلات معا، مثل كتابة أمنيات العيد بالفرشاة والحبر على الورق بالخط الكوري، وكأنهم يعملون بالنصيحة الفرعونية القديمة «لا تغل يدك عن الغريب الذى يأتى إليك فى بؤس مميت»! وبالرغم من الانكسار المصرى فمازال هناك متسع من التمسك بالجذور ورمى البذور فى عقول الصغار ليعيشوا فرحة العيد بالملبس الجديد والأطعمة والحلوى والزينة فى احتواء ثقافتنا الكرنفالية بالأعياد.