تشبه علاقات العرب بالولاياتالمتحدة مأساة إغريقية، عكس ما يبدو على السطح من «شراكة إستراتيجية» وتعاون وثيق متشعب المجالات، علاقات تحمل فى جوفها عوامل تضاد وصراع يشتد ويزداد خشونة، تبدو السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط عاصفة من العنف الجامح، تضرب المصالح العربية وتترك أهلها فى حرج أمنى وانكشاف سياسى شديدى الوطأة، لكن هذا ينبغى ألا يزرع الخوف أو يغرى بالفرار. على مدى عقود، لا عزيز لدى أمريكا سوى مصلحتها، انحازت لإسرائيل وشراهتها اللانهائية لابتلاع الأراضى الفلسطينية والعربية، فى تنكر فاضح لحقوق الشعوب والقيم والأعراف وللشرعية الدولية والإنسانية، تعتبرها مخلبا وفزاعة وقاعدة إستراتيجية زهيدة التكلفة بالمنطقة. وأخيرا ضبطت واشنطن متلبسة بخيانة جديدة ل(أصدقائها) العرب اعترفت بالقدس عاصمة لإسرائيل، ثم أعلنت أخيرا عن نقل سفارتها إلى القدس مايو المقبل، بالتزامن مع الذكرى السبعين لقيام الدولة العبرية. قبل ذلك احتلت العراق بغيا وعدوانا، تحت غطاء من الكذب والمعلومات الزائفة عن أسلحة دمار شامل لا وجود لها.. ومازالت تمارس البلطجة بفجاجة فى سوريا، تحتل ربع مساحة أراضيها وتحمى الجماعات المتطرفة وتدعم مسلحى داعش. وتنتشر القواعد الأمريكية فى ربوع المنطقة وأساطيلها تطوق دولها وتشعل نار الفتن بين العرب وجيرانهم، لتملى شروطها على الجميع، فتدوى طبول الحرب وتغسل حمامات الدم شوارع أوطان تأكل أبناءها. فى ديسمبر الماضى وصفت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية مصر بأنها «حليف فظيع أو سيئ»، داعية لإعادة النظر بمجمل علاقات البلدين، لأن مصالحه متباينة بشكل كبير، تجاه معظم ملفات المنطقة: سوريا وليبيا وحقوق الفلسطينيين والعلاقات المتنامية بين القاهرة وموسكو وعقيدة الجيش المصري، إلخ. وطالب المقال بتخفيض حاد للمعونة العسكرية الأمريكية لمصر، أو التدخل فى شئونها تحت يافطة حقوق الإنسان، لانتزاع تنازلات..! كشفت «نيويورك تايمز» الوجه القبيح لأمريكا تجاه مصر والعرب، وخطأ تقديراتها، لأن تخفيض المساعدات (نحو مليار دولار) لن يؤثر قيد أنملة على توجهات مصر أو يُحجم قدرة جيشها، أوقفت هذه المساعدات لمدة عامين، بعد الإطاحة بحكم «الإخوان»، كما خفضت نحو 300 مليون دولار أغسطس الماضي، فلم تنل تلك العجرفة من عزيمة المصريين، واتجهوا لتنويع مصادر التسليح، فلجأت واشنطن إلى الألاعيب الرخيصة، تسربت أنباء عن محاولتها عرقلة تسليم مصر صواريخ فرنسية، ضمن تسليح صفقة طائرات «رافال» يجرى التفاوض بشأنها، لأن أمريكا تصنع بعض مكوناتها. وبالنظر إلى أن أمريكا لا تتحدث سوى لغة المصالح، فإنها لا يمكن تغفل حجم المصالح الاقتصادية والاستراتيجية مع الدول العربية، لكنها لا تتورع عن الاستهانة بردات فعلهم، مثلما جرى فى شأن القدس. المؤسف أن كثيرا من العرب يرفضون تصديق ما تفعله أمريكا بهم، ويبحثون لأنفسهم عن ذرائع للطمأنينة، بعضهم يتطوع بإضافة كسوة من السكر على الجرعات الأمريكية شديدة المرارة. كيف تكون واشنطن حليفا استراتيجيا أو حتى مجرد صديق، وهى لا تبدى أدنى قدر من التفهم للشواغل العربية، والخلاف معها متقد تحت رماد الأكاذيب، فما يجرى ليس تجاذبا بين أزواج يأتى ويروح. إن العلاقات الأمريكية -العربية لا يمكنها السير على القضبان الحالية، تحتاج إلى تعديلات جوهرية دون توان، صحيح أن أمريكا هى القوة العالمية الأولى، لا يجوز خسارتها أو الصدام معها، تماما مثلما لا يجب الانبطاح لرؤاها، حتى لا يظل العرب ضحايا بلا ثمن لخطوط سياساتها، كما حدث مرات من قبل، أو «التملص» من مواجهتها برشد وعقلانية وكبح الآثار السلبية لتوجهاتها على المصالح المصرية والعربية. هنا على القاهرة، فى ظل ظروفها الحالية، ألا تتحمل عبء المواجهة المنفردة مع واشنطن، وليس حتما أن يأتى من القاهرة أو الرياض أو أبوظبى على حدة، إنما توافق عربى عام على حد أدنى من المطالب، توضع فى كفة مقابل المصالح الأمريكية مع الكتلة العربية، وذلك أضعف الإيمان، لاسيما أننا على مشارف القمة العربية، وقبيل قيام المسئولين العرب برحلات «حج الربيع» إلى واشنطن. صلف دونالد ترامب، وقسوة توجهات إدارته يجب أن تكون دافعا للحيلولة دون هطول مزيد من الكوارث على رءوس ساكنى الشرق الأوسط، تفهم الولاياتالمتحدة حقائق القوة وأسبابها لدى الآخرين شرط أن تسندها إرادة تستطيع، لاسيما أن ترامب يهوى «الصفقات». وبرغم الجراح البليغة والفاتورة الباهظة تظل البدائل متاحة أمام مصر والعرب فى عالم تنبت أقطابه وتبزغ قواه الجديدة، شرقا وغربا، كأشرعة المراكب على سطح النيل. [email protected] لمزيد من مقالات د.محمد حسين أبوالحسن