يفرض علينا الواقع بتحدياته الجسام، أن نتجاوز كل مكوناته لنركب آلة الزمن عائدين إلى خمسينيات القرن الماضي، حيث عالم الأحياء الأمريكى الشهير (كورت ريتشر)، يجرى فى معمله مجموعة من التجارب النفسية على الفئران، وبدأ بوضع كل منها فى إناء زجاجى كبير ممتلئ لمنتصفه بالماء، حتى لا يستطيع الفأرالتعلق بمخالبه أو القفز خارجه، ثم قام (ريتشر) بحساب الوقت الذى سيقاوم فيه كل فأر الغرق محاولاً الخروج قبل أن يستسلم، وبلغ متوسط محاولات الفئران مقاومة الغرق خمس عشرة دقيقة تقريبًا، ثم أعاد العالم الأمريكى التجربة بعدما أضاف تعديلاً قام به مع كل فأر فى لحظات مقاومته الأخيرة حيث كان يُخْرِجُه من الإناء ويجففه ثم يتركه يستريح لبعض الوقت، قبل أن يعيده من جديد إلى الإناء، وبدأ فى حساب متوسط الوقت الذى يقاوم فيه الفأر غرقه، وكانت المفاجأة أن المتوسط قفز من ربع ساعة إلى أكثر من ستين ساعة، ووصل فى إحدى الحالات إلى واحد وثمانين ساعة، واكتشف (ريتشر) أن الفئران فى المحاولة الأولى لم تكن قد اكتشفت (الأمل) ولهذا لم تطل مقاومتها للغرق، أما فى المرة الثانية فكانت الفئران قد اكتشفت أن طول مقاومتها وتشبثها بالحياة قد يسوق إليها يدا تنتشلها، لقد أضافت الفئران الموشكة على الغرق خبرة نفسية جديدة هى (الأمل) فبدأت تقاوم الموت المحدق من كل جانب فى انتظار فرج غير معلوم. تعود آلة الزمن إلى واقعنا، حيث يسير الزميل الصحفى الثلاثينى الموجوع بحب هذا الوطن دون أن يفهم للوجع أو للمحبة سبباً واضحاً، تحمله خطواته إلى (كوبرى قصر النيل) ومنه إلى ميدان التحرير، يقول (صار لى زمن أتحاشى الاختلاط بميدان التحرير)!، وأخذته قدماه إلى الميدان وعند أحد أطرافه توقف، كانت هنا خيمته فى أحد الاعتصامات التى امتدت خلال الفترة من 2011 وحتى 2013، ولسبب ما بدأت الدموع تهاجم عينيه وتصاعد هجومها ليضبط نفسه فى حالة بكاء صريح، يقول (بذلت مجهودا كبيرا فى الابتسام التضليلى علشان الناس اللى أخدوا بالهم حواليا يصدقوا إن عينى مطروفة ومش بعيط ولا حاجة)، ويسير زميلى الصحفى الذى يفترض أنه شاب، يحمله خطوٌ شاب، فيما يتردد فى أصداء نفسه كلمات من عينة (أيامنا كلها بتتسرق، والزهايمر بياكل أرواحنا، ومش هيبقى عندنا ذكريات نفتكرها ولا نورّثها لحد). فى المسافة الفاصلة بين تجربة (فئران الأمل لريتشر)، و بين حالة الصحفى الشاب، يجلس (أيوب المصري)، فقيهاً متنبهاً خبزت سنوات العمر خبراته، وخطت تجارب السنوين كتاب صبره، وعالجت المحن أسباب بقائه فصار وطناً عصياً على أن يكسر، يؤذن (أيوب المصري) فى الضمائر جميعها أذاناً للأمل، الكل فى مواجهة أذانه سواسية، عليه الأذان وعلى الله البلاغ، فحين يسود خطاب اليأس والإحباط والتخوين والتفريط يكون الأذان للأمل فرض عين، ويكون الحذاء للمسير دليل حياة مهما بلغت قسوة الخطوات وثقلها. بعيداً عن كل تحديات البقاء فى عالم جديد يسعى النظام العالمى لفرضه علينا واقعاً، وبغض النظر عن كل فوضى المواقف التى يلفنا بها عالم افتراضى صرنا له أسري، ورغم كل أزمات الواقع المعيشى الذى يكابد منه الجميع، تبقى غلالة رقيقة تغلف روح المصرى القديمة، توارثها كل منتمٍ لهذا الوطن، شمس حياة قديمة، مرسومة أشعتها على جدران المعابد الخالدة، تؤذن بميلاد صبح مهما يكن الليل محدقاً، عرفها المصريون أماً وأملاً واسموها (إيزيس) وطورتها أديان السماء فى وعيهم فصارت (أم النور) وغدت فيما بعد (أم الغلابة)، واستحالت موالد محبة مسيحية ومسلمة تؤكد تطلع كل مصرى للأمل مدداً، وللحلم إلهاماً يقاوم انعدام أسباب النجاة. إننا يا سادة فى مواجهة مؤامرات تهدد البقاء لا القدرات والمقدرات، وفى هكذا مناخ يصير على الراعى والرعية التنبه إلى حتمية إعادة اكتشاف (الأمل)، وفرضه مقرراً على العقول، وهو ما يدعو إلى مراجعة مكونات الواقع الخاص بقوانا الناعمة، وفى القلب منهم ذلك الجيل الذى تشكل فى رحم يناير الحلم، ونما فى أتون الأحداث التى تلت حتى ثورة 30 يونيو، ثم طوته يد الإهمال والنسيان والتعطيل بفعل تتابع تحديات استرداد الدولة وغياب رؤى التفعيل، ومما لاشك فيه أن عملية استرداد عافية الوطن بحاجة إلى تفعيل هياكل الشباب وحلحلة أزمات حضورهم فى مشهد البناء بعيداً عن لغات التخوين والتفتيت والتشتيت. وبالعودة إلى تجربة (فئران الأمل لريتشر) وبمقارنة جولتيها بما أحدثت (يناير/يونيو) فى الأجيال الجديدة سنكتشف أن مكتسبات الجولتين من خبرات البناء حياة، تجاوزت كل أصحاب الأجندات المغرضة، ثم تعطلت بفعل تقليدية الإدارة وعدم قدرتها على استثمار الطاقات المتفجرة، وهو ما أعاد الفئران إلى أحواض الاختبارات من جديد تقاوم غرقاً لا يأتى وتنتظر يد انتشال لا تمتد. لمزيد من مقالات ◀ عبد الجليل الشرنوبى