منذ بداية هذا القرن كثر الحديث حول ما سمى إعادة رسم الخرائط والتضاريس السياسية خصوصا فى منطقة الشرق الاوسط، وكانت أطروحات كالتى قدمها شيمون بيريز فى كتابه الشرق الاوسط الجديد وكونداليزا رايس حول الشرق الاوسط الكبير، بمثابة تمهيد ليس فقط لإعادة رسم الخرائط بل لاصدار طبعة جديدة من المعجم السياسى الكلاسيكى، فهناك من صدقوا ان التاريخ انتهى، وان حقبة ما بعد الحداثة شملت مفاهيم كالوطنية والقومية والسيادة، لكن هذه الاطروحات لم تكن منقطعة عن تصورات امريكية لما يكون عليه العالم بعد الحرب الباردة، ففى عام 1979 الذى وصف بأنه أخطر الأعوام فى النصف الثانى من القرن العشرين تم تسريب تقارير منها التى أعدها وولفويتس لاسقاط دول، وكان ذلك العام قد شهد متغيرات دراماتيكية فى ايرانوالعراق ومصر بعد اتفاقية كامب ديفيد. ولم يكن تلفيق الذرائع للحرب على العراق وتفكيك الدولة بدءا من الجيش سوى نموذج جديد لما سمى الشرعية المستدركة وهى تبرير الحروب بعد ان تضع اوزارها حتى لو بلغ عدد الضحايا من قتلى ومشردين الملايين، وسرعان ما اتضح لمن تصوروا انهم القياصرة والاكاسرة الجدد، ان ما حدث فى العراق لا يقبل التعميم، خصوصا فى مصر. وما حدث فى العراق لم يكن ممكنا حدوثه فى مصر لأسباب تتخطى ما يتداوله الباحثون عن تعدد الطوائف والاعراق وهو ان ما يسمى الوطنية العراقية التى كان يجب ان تكون مرادفا او معادلا للوطنية المصرية لم يتح لها ان تستكمل نموها. وما اعنيه بطبعة انجلوساكسونية جديدة من المعجم السياسى الكلاسيكى هو حذف مفاهيم منها السيادة الوطنية، بحيث يصبح الانتهاك والتدخل عبر مختلف الاساليب مشروعا تحت ذرائع منها دمقرطة الدول او مقاومة الاستبداد او الحفاظ على حقوق الانسان، والمرات التى جرى فيها تجريب هذه الاستراتيجية فى العالم العربى بالتحديد كانت كافية لتلقيح هذا العالم ضد تكرار اللدغ من الجحر ذاته، لأن القوى التى تمت الاستعانة بها او استدعاؤها ضد ذوى القربى ادت المطلوب منها لكنها مكثت، ولم ترحل، وبدأت تحول غنائمها الى استحقاقات سياسية واقتصادية، وكأن المطلوب من عرب الالفية الثالثة ان يعودوا الى غساسنة ومناذرة يحرسون تخوم امبراطوريات رومانية وفارسية اضافة الى تركيا التى استيقظ لديها حلم قديم وهو هاجس العثمنة، وإعادة العرب باسم الدين الى بيت الطاعة وهو الباب العالى، وهناك فى عالمنا العربى من تولوا تبرير مطامع القوى سواء كانت إقليمية او دولية، ولم يتردد بعضهم فى ان يكون المارشال بيتان العربى الذى يسطو على اقليم تحت حماية الاحتلال كما حدث فى فرنسا اثناء احتلالها من الالمان فى اربعينيات القرن الماضى. ويبدو ان منهج الخرائط الجديدة والتضاريس السياسية المعاد انتاجها وكذلك إصدار معجم سياسى جديد لا تنفصل عن قراءات متعسفة للتاريخ تلوى عنقه كى يستجيب للنوايا ، وهناك ايضا من رأوا ان ثورة يوليو المصرية اجهضت التجربة الديمقراطية فى مصر، وتجاهل هؤلاء ان الاقطاع هو الذى يصادر على اى تجربة ديمقراطية وليس العكس، لأن الفلاحين المملوكين للاقطاعيين لا حول لهم ولا قوة ازاء سادتهم الذين يتحكمون بحياتهم بدءا من القوت حتى الحريات ، لهذا لم تكن ديموقراطية الباشوات هى الاطلال التى تستحق ان نبكى عليها. وكما خلقت الوحدة الوطنية فى مصر فوبيا لدى الساعين الى تطييفها وتقسيمها وصب نيلها فى الجرار ، كذلك خلقت بعض المواقف السيادية لعبد الناصر فوبيا مماثلة، وتحتفظ الولاياتالمتحدة فى ارشيفها السياسى وخزائنها الاستشراقية بما قاله عبد الناصر بالحرف الواحد معقبا على تصريحات للرئيس ايزنهاور ، وهو نقطع اللسان الذى يسيء الى بلادنا . ان التوازى سواء كان فى نطاق الاستراتيجية او الميتااستراتيجية بين ما يسمى المابعديات فى ثقافة العولمة شمل كما قلنا الاطالس وتضاريسها والمعاجم السياسية ومصطلحاتها، فما كان يسمى التبعية فى الحقبة الكولونيالية وفى زمن المندوب السامى ووزارة المستعمرات اصبح الشراكة، ولا بأس ان تطلق القوة الاعظم وهى امريكا اسم النظير لأى وزير او ذى منصب فى اكثر الدول فشلا وضعفا بحيث يصدق التابع بأنه اصبح ندّا او حليفا. لقد سعت الولاياتالمتحدة الى اختطاف حركات عربية وامتطاء موجاتها كما فعلت قوى محلية، وكان ذلك من صميم اطروحات كونداليزا رايس المتخصصة فى التفكيك منذ كانت تعمل فى مكتب جورج بوش الاب عندما كان مديرا للاستخبارات، وما حاوله الاخصائيون فى تفكيك الدول وحل الجيوش حسب النموذج العراقى هو فى ظاهره حق يراد به باطل واحدا لأن الاحتكام هو للمصالح، ومن امتصوا بينوشيهات امريكا اللاتينية وشاهات آسيا ومهراجاتها حتى النخاع، تخلوا عنهم عندما انتهت صلاحيتهم ولم يجدوا حتى قبورا لهم!. هكذا لم تدرك القوى العظمى كل ما تمنته كما يقول الشاعر العربى: وهبّت الاعاصير على غير ما تشتهى كل السفن الورقية، اما التاريخ فقد سخر ممن اعدوا له الجنازة وواصل جدليته ومجراه! لمزيد من مقالات خيرى منصور