حين زرت العاصمة الأردنية عمان، منذ أسابيع، تعرفت على شاعر فلسطيني مقيم بالأردن، شاب يشارك بعض رفاقه في دار نشر، وهو الشاعر سلطان القيسي، لنبدأ بعدها صداقة ومراسلات إنسانية وأدبية، وبين الوقت والآخر، كنت ألمح تعليقاته على "فيسبوك" لأجدني مختلفًا معه، وهو أمر صحي ومحمود، إلا أنني لاحظت انحيازَ خطابه ناحية نظم الخليج وما تردده أجهزة إعلامه، حتى وصل الأمر إلى نشر مقالة أول أمس ب"القدس اللندنية" يساوي فيها بين الاحتلال الاستيطاني الصهيوني ونظام الجمهورية الإسلامية في إيران. ولأن الصداقة بيننا تسمح بأن أعاتبه وأختلف معه، وأنتقده، كما أنتقد نصوصه الشعرية وانحيازاتها الجمالية، فإنني لم أستطع أن أقرأ مقالته إلا من منطق الشاعر المتأثر بالشائعات الإعلامية الخليجية، عن الصراع العربي الصهيوني، وعن النظام الإيراني في ضوء الصراع السياسي بين النظم الرجعية بالخليج ونظام الحكم في طهران، كما أنني لا أعتبر المساواة بين "الكيان" والجمهورية الإسلامية "خطأ"، بل "خطيئة" أسقطت من قبل مروجيها في قاع التاريخ والنبذ، وبدوا كمن رقصَ في العتمة، أرضوا النظم الخليجية وحكومات الكيان ومنحوا بعض الامتيازات نعم، لكن لعنتهم الجماهير العربية التي لا تزال في أعظمها رافضةً للمنطق الصهيوني، وهو المصير الذي أخشى أن يلقاه سلطان القيسي. المغازلة للنفط نتيجة الأمسيات المعطرة برائحة البترودولار، جعلت الشاعر المثقف يقول إن الاحتلال الفارسي للدولة العربية يمتد ل"50 قرنًا"، علميًا وعمليًا لا نعرف أن سكانًا يسكنون الأرض 5000 آلاف سنة، ويأتي من يقول بعدها أنهم محتلون لهذه الأرض، وبالمنطق ذاته هل يقبل سلطان دعاوى اليهود في المطالبة بأرض احتلها العرب من عشرات القرون؟ إن سلمنا بالاحتلال الفارسي الممتد لخمسين قرنًا سنسلم باحتلال العرب لفلسطين! وربما نسلم فيما بعد باحتلال المصريين لوادي النيل، أو نسلم بالأكاذيب التي تقول عن مسلمي مصر أنهم أبناء غزاة جاءوا فقط منذ 15 قرنًا وليس خمسينًا!! جهل القيسي يمتد إلى التاريخ والجغرافيا والسياسة، ليقول إن الخليج الفارسي لم يكن اسمه هكذا إلا منذ عام 1925، في حين أن مسماه التاريخي منذ 330 سنة قبل الميلاد، كما أن الجرائد ووسائل الإعلام الغربية، والموالية لدول الخليج والمعادية لإيران، تسميه بخليج فارس persian gulf، وهي تسمية لا تعني الملكية، كتسمية المنطقة التي تقع بين سواحل شبه الجزيرة العربية وشبه الجزيرة الهندية ب"بحر العرب"، وللعلم هي منطقة تحدها إيران وباكستان من الشمال، وشبه القارة الهندية من الشرق وشبة الجزيرة العربية والقرن الأفريقي من الغرب، فهل هذه المنطقة ملكٌ للعرب؟! وهل المحيط الهندي منطقة خاصة بالهند؟! الأمر الذي نستخلص منه أن المدافع عن العلم والتاريخ سيسمي الأشياء بمسمياتها وسينسبها إلى مالكيها الأصليين، فالخليج ملك للدول المطلة عليه، وحق العرب فيه أكبرٌ وتاريخي وثابت، لكن تبقى التسمية الأدق "الخليج الفارسي"، ومن حقكَ أن تسميه بالخليج العربي، فهي نقطة صراع مصطنعة كما يدرك دارسو تاريخ المنطقة. فيما يقع الشاعر الذي يبدو من مقالته أنه لا يجيد استخدام مناهج التحليل العلمي للتاريخ وحوادثه، في كارثة علمية، حين يربط الاحتلال الاستيطاني ب"الروم"، وكأن الغرب الإمبريالي الراهن وتابعه "الكيان الصهيوني" وريثٌ للروم، وهي رؤية مغلوطة وتعطي للصراع بعدًا دينيًا، مما يعزز الصراع الطائفي بالمنطقة، بل في العالم أجمع، فضلًا عن المفاهيم القبائلية التي استخدمها "شاعر الحداثة" كاستدعائه لصراع "الغساسنة والمناذرة"، وكأن العربَ في القرن الحادي والعشرين لا يزالون يتصارعون وكأنهم غساسنة ومناذرة فحسب! أو كأن القبائلية الحاكمة في بلاد النفط ليست سببًا رئيسًا في نشر الثقافات البدائية في أذهان الناس، حتى وصلت للنخبة التي ابتلعت "طُعمًا قبائليًا"، وهو أمر ليس بجديد، وإنما هي عملية وقع فيها كثيرون، لا أقول الجميع بالطبع، وقمتُ بكشف بعضهم في أطروحتي للماجستير، وأشهرهم السعودي عبد الله الغذامي. يلجأ خطاب القيسي إلى نشر السائد في الذهنية الشعبوية بفضل وسائل الإعلام عن بعض الحكام العرب أو النظام الإيراني، وأبرز هذه المغالطات الوصم بالطغيان، دون أي تحديد واضح لمفهوم الديمقراطية التي ينشدها الشاعر، هنا تطفح تساؤلات، يتجنب المثقفون الموالون للخليج الإجابة عليها، ومنها: هل "قطر" الراعية للجريدة التي نشرت المقال دولة ديمقراطية في رأي القيسي؟ وهل سيكتب عن "ديكتاتوريات النفط وممالك الخوف" قريبًا؟ هل سينتفض لبلاده المحتلة ضد التطبيع الخليجي مع الكيان الصهيوني؟ وهل ستؤرقه سياسات السعودية المساندة لإسرائيل؟ هل سيغضب من الوهابية التي تنشر الفتن في مصر وسوريا ولبنان وفلسطين والعراق وغيرها من البلاد العربية؟! وهل سيتخلص من "النهيق للطغاة المعشش بدواخلنا" حد قوله؟ أم أن الله اصطفاه ونقاه مما أصاب أغلب العرب كما نقى أمراء النفط؟! ليطمئن القيسي، لا نبجل النظام الإيراني، أو حلفاءه، فمن جانبنا سبق أن كتبنا نقدًا للمقاومة حين فقدتْ لوقتٍ بوصلتها، أمثلة ذلك اعتذار مدير قناة المنار للبحرين، واعتبرنا الأمرَ تصويبًا لفوهة البندقية ناحية صدورنا وصدور ثوار ميدان اللؤلؤة بالمنامة، ولا نُعبدُ إيران بل نختلف معها أحيانًا، لكننا أيضًا نرى نظامها مساندًا للمقاومة الفلسطينية والمقاومة بجنوب لبنان، ويكاد يكون المحورَ الوحيد حاليًا المساند لفصائل المقاومة ولحزب الله، ففي حرب العدوان الإسرائيلي على غزة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 أطلقت المقاومة عشرات الصواريخ على جيش الاحتلال، فمن أين جاءت المقاومة بكل هذه الصواريخ؟ من قطر ونظام الإخوان الموالي لها الذي كان حاكما لمصر وقتها؟! أم من محور "المقاومة الخليجية؟!!"، ناهيك عن المساندة بالتسليح حتى اللحظة لحماس وبقية الفصائل، كان آخرها السفينة التي تم ضبطها مؤخرًا، فضلًا عن المساندة القوية لحزب الله في حرب 2000، والوعد الصادق 2006، وغيرها من المعارك. نقول للشاعر نحن لا نمجد احتلالًا ونقاوم آخر، بل نرى في الجمهورية الإسلامية وثورتها 1979 حليفًا للعرب ولقضيتهم "الصراع العربي الصهيوني"، وأذكره بمقولة ثائر حقيقي، لم يغازل يومًا الممالك الوهابية ويروج لأكاذيبها، أو يتملق نظمها أو يتجاهل عمالتها ومساندتها للصهيونية، هو خطيب الثورة جورج حبش، الذي قال "إن أي نظام عربي يحيك الدسائس والمؤامرات ضد الثورة الإسلامية في إيران هو خائن خارج على إرادة الشعب العربي". فليقف الشاعر حسبما شاء، ومع من شاء، مع "الخلايجة" وأمسياتهم النفطية أو مع المقاومة والمسلحين ضد الكيان، لكن الكارثة الحقيقة أن يتبنى من يدعي الدفاع عن أرضه منطقَ الصهيونية ذاته في ادعاءاتها بأن هناك احتلالا يستمر لخمسين قرنًا، إنها "الخرافة" في أقل تقدير.