على أيامي.. وهى أيام على بعد خطوات منا فى الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.. وأيامها كانت مصر الأولى على قارة إفريقيا بحالها والدول العربية والإسلامية معا.. فى إيه؟.. أنتم تسألون بالبلدى كدة.. وجوابى لكم فى كل شيء.. فى التعليم وفى الثقافة وفى الفكر وفى الأدب وفى العلم وفى الفن وفى الموسيقى وفى الغناء وفى المسرح وفى السينما.. وفى الرياضة وفى السياسةأيضا.. وكانت حدود مصر الجغرافية على أيامى وأيام جيلى كله أيها السادة تمتد من شاطئ البحر الأبيض المتوسط شمالا.. وحتى آخر حدود السودان جنوبا.. قبل أن تنفصل السودان فى عهد جمال عبد الناصر بكل أسف.. وينفصل جنوب السودان فى عهد حسنى مبارك.. بكل أسف برضه! وضعوا تحت عبارة: بكل اسف هذه عشرة خطوط حمراء، من عندكم .. وعشرة خطوط حمراء أخرى من عندى أنا! وحتى لا ننسي.. فقد كان اسم ملك مصر أيها السادة على ايامى وأيام جيلى كله قبل الثورة.. ملك مصر والسودان.. ومن عنده كلام آخر فليتفضل! يعنى كانت مصر والسودان حتة واحدة وشعب واحد.. كما كانت تقول جدتى لأمي! أما نحن الآن والحمد لله والشكر لله بعد أن انفصلت السودان وانفصل جنوب السودان بعدها وأصبحنا نعيش داخل الرقعة الجغرافية المصرية وحدها من البحر الأبيض شمالا.. حتى حدودنا الجنوبية عند حلايب وشلاتين! ولا أريد أن أزيد همومكم ومواجعكم أكثر وأكثر عندما أقول إننا الآن تعليميا وتربويا بعد أن كنا الأوائل فى التعليم وفى كل شيء إفريقيا وعربيا أيضا.. وبعد أن علمنا الدنيا كلها من قديم الزمان وسالف العصر والأوان ما لم تعلم.. أصبح ترتيب مصر فى جدول التعليم فى العالم كله لا يسر عدوا ولا حبيبا كما كانت تقول جدتى لأبى هذه المرة وأصبحنا نجلس تعليميا فى المقعد رقم 118 أو 117 أيهما أصح إفريقيا وتسبقنا الآن فى كشف الجدول التعليمى والتربوى دول مثل رواندا تصوروا وبلاد أخرى مازالت تلعب فيها القرود وتتنطط النسانيس فوق أشجار الغابات وفى الحوارى والأسواق.. وأرجو الا أكون مخطئا فى رقم الترتيب.. ومن عنده قول آخر فليتفضل! . . . . . . . . . . . . . . وحديث الأوائل والخلق والإبداع والتحليق فى سماء الفن والأدب والصحافة.. على أيامى وأيام جيلى كله.. ذلك الجيل الذى خرج من تحت عباءته أقطاب ورواد ومصابيح الفن والعلم والأدب والفكر والصحافة.. جيل نقرأ معا فى كشف حضوره أسماء عشت معها وتأثرت بها خلقا وإبداعا.. أمثال: الاساتذة والرواد محمد حسنين هيكل ومصطفى أمين ومحمد التابعى وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس وأنيس منصور ومصطفى محمود ومحمود السعدنى وفتحى غانم وأحمد بهجت فى الصحافة والكتابة وصلاح جاهين فى الكاريكاتير والشعر العامي.. وجمال السجينى فى النحت.. ومحمد محمود وصلاح طاهر وفاروق حسنى فى الرسم.. وأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وفريد الاطرش وعبدالحليم حافظ فى الغناء ومعهم اسمهان وفيروز وشادية وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة وعبد الوهاب وزكريا احمد والقصبجى والسنباطى وبليغ حمدى والموجى والطويل ومنير مراد فى التلحين.. وأحمد رامى وحسين السيد ومحمد حمزة فى كتابة الأغاني، ونجيب الريحانى وإسماعيل ياسين واستيفان روستى ومحمد صبحى وسمير غانم فى الكوميديا.. وصلاح أبو سيف ويوسف شاهين وعاطف الطيب فى الإخراج.. وأحمد زكى وزكى رستم وشكرى سرحان ومحمود عبد العزيز وفريد شوقى ومحمود المليجى فى التمثيل..
الرئيس جمال عبدالناصر مع ابنه خالد يلعبان دور شطرنج فى استراحة القناطر الخيرية أما فى عالم صاحبة الجلالة.. مهنة أصحاب المتاعب.. أرى الآن على رأسهم الزميل الكبير المقام والقلم مكرم محمد أحمد كبير العائلة الصحفية والإعلامية الآن.. أعانه الله على قيادة السفينة الصحفية والإعلامية إلى بر الأمان.. ومعه الزميل كرم جبر والعزيز الغالى عبد المحسن سلامة نقيب الصحفيين ورئيس مجلس إدارة الأهرام أكبر صرح للصحافة على مدى نحو قرن ونصف القرن من الزمان.. ومعه على الدرب نفسه والهم والحمل الثقيل الزميل العزيز علاء ثابت رئيس التحرير أعانه الله وسدد خطاه هو الآخر ولا ننسى هنا جيل الرواد العظام فى بلاط صاحبة الجلالة: مصطفى أمين وعلى أمين ومحمد التابعى وكبير العائلة الاهرامية طبعا الاستاذ محمد حسنين هيكل.. } ولكن اسمحوا لى أن نتوقف هنا هنيهة ونأخذكم معا إلى حديث ممتع عن »الشقاوة بتاعة زمان«.. فالشقاوة ترسم البهجة على الوجوه وينشرح لها الصدر ويطيب لها العقل ويسعد بها الوجدان.. ولا يشقى لها أو بها أحد.. بل ترسم فى النهاية البسمة على الوجوه والإشراقة فى العيون والبهجة والحبور يعنى السرور فى الصدور.. هذه الشقاوة جعلتنى صبيا يكاد يشب عن الطوق يقابل جمال عبد الناصر.. وما أدراك ما جمال عبد الناصر ايامها.. مرتين.. وجها لوجه فى عام واحد.. كيف جرى ذلك يا فتى الفتيان؟.. أكاد أسمعكم تتساءلون؟.. إليكم الحكاية والرواية.. كان العام هو عام 1953.. يعنى بعد ثورة يوليو بعام واحد.. وبينما نحن فى الحصة الثالثة فى مدرسة القناطر الخيرية الثانوية جاء من يخبرنا: حضرة الناظر عاوزكم؟ وتحركنا إلى مكتب حضرة الناظر كنا خمسة تلاميذ أعضاء تحرير مجلة «القناطر الخيرية» التى كنا نصدرها ايامها كل شهر مرة من مصروفنا الخاص.. فاجأنا حضرة الناظر بقوله: جمال عبد الناصر سوف يمر من الطريق المسافر بين القاهرةوشبين الكوم بعد ساعة واحدة من دلوقتى .. أعدوا له ما استطعتم من استقبال يليق بقائد ثورة 23 يوليو.. وعلى عجل حملنا علم مصر.. وجهزنا الفرقة النحاسية لعزف نشيد مصر عندما يصل موكبه.. ووقفنا فى الطريق وسط الحدائق ننتظر موكب الزعيم.. وفاجأنا جمال عبد الناصر بوصوله فى سيارة ما زلت أذكرها جيدا.. فقد كانت سيارة شيفروليه سوداء موديل 1951 كابورليه ومعه كمال الدين حسين.. ولا موتوسيكلات ولا هيصة ولا زمبليطة.. ولما رآنا نلوح له.. وتوقف ونزل من السيارة ورفع يده بالتحية العسكرية.. واحتضننا واحدا واحدا.. وأذكر أنه قال لنا يومها: معلهش أصل عندى ميعاد فى شبين الكوم وإن شاء الله سوف أحضر لكم خصيصا فى مدرستكم.. ووقع بإمضائه على العدد الجديد من مجلة المدرسة.. ورفع يده مع زميله كمال الدين حسين وزير التعليم بعد ذلك بالتحية العسكرية لنا وسط تهليل التلاميذ وهتافهم له وللثورة المجيدة! } مازلنا مع حديث الشقاوة الطريفة أيام التلمذة.. تلك التى تنعش الفؤاد وتسعد الوجدان.. وهذه المرة وصلت شقاوتنا إلى أعتاب الاستراحة التى يمضى بها جمال عبدالناصر يوم الجمعة عادة مع أسرته فى حدائق القناطر الخيرية.. فهى على بعد خطوات من مدرستنا.. عندما ذهبنا أنا ومحمود ابن عمى وكان ايامها تلميذا معى فى نفس المدرسة.. وذهبنا نصطاد السمك ب»سنانير« بدائية نطعمها من دود الأرض.. فى الترعة الملاصقة تماما للاستراحة الملكية »بتاعة الملك فاروق« التى تحولت بعد الثورة إلى استراحة لقائد الثورة.. ولم نكن نعلم أن جمال عبد الناصر موجود يومها مع أسرته داخل الاستراحة.. ولأن الدنيا كانت واحة للأمان أيامها.. فلا حرس ولا حراسة حتى من حول استراحة الرئيس والملك من قبل.. لم نلمح عسكريا واحدا عمل تصوروا! وجلسنا نصطاد أنا وابن عمى محمود وطاب لنا الصيد ونسينا أنفسنا والوقت والمكان.. وملأنا شنطة كبيرة من القماش سمكا صاحيا »بيتلعبط«.. وفى إحدى المرات طلع لعمنا محمود ابن عمى فى سنارته سمكة بياض كبيرة.. رفعها من الماء عاليا.. فإذا بها تسقط خلفه.. فنظرنا خلفنا فإذا بجمال عبد الناصر بشحمه ولحمه ووجوده الطاغى يمسك بالسمكة فرحا وهو يقول لنا: سمكة حلوة قوي.. أنا قاعد وراكم من ساعة بحالها باتفرج عليكم وأنتم بتصطادوا!.. وتحرك جمال عبد الناصر بطوله وهيبته وحضوره الطاغى من مكانه مشيا إلينا ونحن نكاد نقع من طولنا خوفا.. ولكنه ربت على كتفينا وقال لنا: ماتخافوش.. بس تخلونى أصطاد معاكم! ثم أمر الحرس الواقف أن ينصرف ويتركنا.. وأمضى معنا جمال عبد الناصر نحو الساعة وهو يحاول أن يجرب حظه فى الصيد.. ينجح مرة ويفشل مرات.. وهو فرح مرح.. وتحول من قائد ثورة إلى رفيق رحلة صيد سمك مع تلاميذ مدرسة القناطر الخيرية.. ولكننا للحق »لم نكن على بعضنا«.. كما يقول العامة.. فمن يصدق نفسه أنه يصطاد سمكا مع قائد ثورة مصر؟ ولكى يطمئننا أكثر طلب لنا طعاما من طباخ الاستراحة وهو يقول لنا: أنتم ضيوفى النهارده.. يا ولاد ولازم تتغدوا معايا ولكننا للحق رغم كل هذه الحفاوة »لم نكن نكاد نتمالك انفسنا.. وتمالكت أنا شتات نفسى وذكرته بيوم أن استقبلناه مع كمال الدين حسين بالأعلام والبيارق والموسيقى على الطريق وهو ذاهب إلى مدينة شبين الكوم.. وذكرته بوعده بزيارتنا فى مدرسة القناطر.. وهنا قال جمال عبد الناصر لنا: بس كده.. حازوركم إن شاء الله.. وقبل أن نمضى لحال سبيلنا.. قال لنا جمال عبد الناصر: كل يوم جمعة يا شطار أنا باجى هنا.. الجمعة الجاية أنا فى انتظاركم.. تعالوا ما تخافوش من الحرس أنا حادّى أوامرى لهم.. وكل شيء طبيعى تمام.. بس تعالوا! سلمنا تعظيم سلام.. ومضينا.. لنسلم أقدامنا للريح.. يعنى جريا من حدائق القناطر حتى باب دارنا فى القناطر الخيرية.. ونحن لا نكاد نصدق ما حدث..لكننا كنا فى قمة السعادة والفرح! وقد تسألون: طيب ويوم الجمعة التى بعدها.. هل رحتم لموعد جمال عبدالناصر؟ والجواب أنتم تعرفونه مسبقا.. كفاية خضة واحدة فى العمر.. موش اتنين! لقد خفنا حقا.. ونحن مازلنا صغارا أبرارا.. أن نكرر ما فعلناه أول مرة.. باعتبار أنه فى كل مرة قد لا تسلم الجرة كما يقول المثل الشعبي! } ولكم ان تسألوا: وهل قابلت يافتى الفتيان انور السادات بطل الحرب والسلام؟ وجوابي: نعم لقد قابلت بطل الحرب والسلام ولكن بعد ان اصبحت محررا فى الاهرام وذهبنا إلى جزيرة الفرسان فى الاسماعيلية لكى نقابل انور السادات هكذا قالوا لنا.. وهناك وكنا فى شهر رمضان شهر الصيام.. وجاء موعد الافطار.. ومرت امامنا الموائد وفيها ما لذ وطاب.. ولكن انور السادات قال لنا: معلشى أما موش حفطر معاكم.. انا حافطر لوحدي.. أصلهم بيعملوا ليا اكل مخصوص! ولاننى كنت ايامها «لمض» بكسر اللام والميم وسكون الضاد حبتين فقد قلت للرئيس يومها: ممكن تسمح لى أنا وزميلى الذى كان يرافقنى الرحلة يومها عبد الوهاب مطاوع الذى اصبح فيما بعد من أشهر من يكتب عن المرأة ومشاكلها فى بر مصر كله ان نفطر مع سيادتك؟ قال ضاحكا: أهلا وسهلا.. بس اكلى موش هيعجبكم! قلنا للرئيس يومها على ما اذكر: المهم يا ريس ناكل مع سيادتك عيش وملح؟ ذهبنا وجلسنا.. ودق مدفع الافطار وجاءت الاطباق فإذا بها فتة وشوربة ولحمة مسلوقة.لا أكثر ولا أقل قال لنا انور السادات ضاحكا يومها معلهش أصل انا عيان.. والدكاترة وصفوا لى المسلوق! } كانت أيام.. { عندما تجلس إلى عبدالناصر تشعر إنه يحمل فى صدره وقلبه مشاعر طفل صغير .. هكذا كان إحساسنا عندما قابلناه صغارا..!!Email:[email protected] لمزيد من مقالات عزت السعدني