يُقدَم فعل الكتابة وأحوالها فى خطابات الكتاب بأوصاف متعددة، تتراوح بين الإيجابية والسلبية، وما بينهما من تداخلات وظلال، حيث يحتفى بعضهم بها، ويضفى عليها عديد النعوت، كحالة نشوة وفرح وراحة وتألق وميلاد، وظفر ومطاردة للأفكار والشخوص والتعبيرات والصياغات الجديدة وغير المألوفة، إنها تبدو بمثابة حالة ميلاد وتجدد عقلى ونفسى وروحى للكاتب، لاسيما زُمر الشعراء والروائيين والقصاصين، والمسرحيين، الذين يصارعون من أجل بناء الشخصيات المتخيلة أو تلك التى تذخر بها الحياة اليومية، ويعيدون بناءها ورسمها وفق متخيلاتهم، بعض هؤلاء الكتاب تغمره نشوة الكتابة، واللذة اللغوية، ويحول الكتابة أو الخطاب حول الكتابة إلى سردية رومانتيكية، وحالة عشق وَوَلّه ووصال ووصول إلى ذروة الاتحاد فى العشق الصوفي. بعضهم يسترسل عن الكتابة ربما أفضل من كتابته، وبعضهم الآخر لا يملك سوى التساءول عن أى كتابة يتحدث؟ آخرون سرديتهم عن الكتابة، تتحدثُ عنها كخلاص وتطهر من آثام الواقع الموضوعى وآلامه وضحاياه واحتلاله بالاستبداد، والاستغلال، والظلم الاجتماعي، أو قمع الفرد وصوته وحريته! وإزاء القهر، الكتابة تبدو كصراخ راقٍ ضد انحطاط الواقع وتخلفه. بعضهم يراها أداة احتجاج فى مواجهته، ورفض له، ودعوة للتحرر من ربقة أصفاده وسياجاته ... الكتابة حرية لدى بعض كبار الموهوبين والمبدعين راسخى المعرفة والوعى وبُناةُ الأخيلة، والعالم وصناع اللغة الجديدة الباهرة والمتفردة نسيج وحدها، والتى لا يستطيع الآخرون الإتيان بمثيلاتها. تبدو الكتابة كميلاد عسر محمولُ على الألم العميق والمجاهدة والتأني، والمحوَّ والحذف، والتردد والبحث الدائم عن الجديد، والشك والمراوغة والهروب من مراودة فعل الكتابة القاسية، وهؤلاء هُم بناة العالم، ومكتشفو قارات الروح الغامضة والمستورة فيما وراء عتمتها الساحرة! هؤلاء الكُتاب قلة القلة، وبدونهم يبدو العالم كالأرض اليباب إذا شئنا استعارة «ت. أس . أليوت». حول قلة القلة، تبدو المساحة محدودة لآخرين موهوبين وقادرين على إنتاج الكتابة المغايرة والمختلفة والباحثين عن مسارات جديدة للإنسان ومصائره وحياته ووجوده وعدمه وفق سارتر- وساعين إلى كشف مغاليق ودهاليز الضرورة والشرط الإنساني. كل هؤلاء مجددون فى السرد، وفى القص والشعر والمسرح، وفى الفلسفة، وفى النقد الخلاق الذى يحلل ويفسر ويفتح الآفاق واسعة أمام الجديد، ويكتشف الومضات الحاملة لمسارات جديدة فى مواجهة سرديات الزيف والتفاهة والضحالة والكذب والاصطناع! الكتابة لن تنتهى بنهاية «عصر الكتابية» الذى حل بديلاً عن الشفاهية، لكنها ستأخذ وجهة أخرى، وثورة غير مألوفة، فى ظل عمليات التحول من الإنسان الطبيعى إلى «الإنسان الرقمي» مع الثورات المتوالدة من الانفجار الرقمى الكونى الذى يسحق عادات وقيما وأنماط سلوك وأساليب تفكير ولغة اعتدنا عليها، وطورتها الكتابة الإبداعية بما فيها الفلسفة والعلوم الاجتماعية على أيدى الفلاسفة والمنظرين العظام. السؤال ما مصير هذا التحول من اللغة الكتابية والشفاهية قبلها إلى اللغة الرقمية ومنطقها وبنياتها الجديدة التى تتشكل بسرعة وكثافة؟ هذا التحول إلى لغة من الأرقام والرموز والإشارات والاختصارات، هل سينهى عالما من تاريخ الكتابة؟ ربما الإجابة ستكون قادمة بنعم، لكن هل سيؤدى ذلك إلى تحول الكتابة الورقية إلى جزء من التطور التاريخى للإنسان الطبيعي؟ ومن ثم تحتاج إلى قاموس للأجيال الرقمية كى تفك شفراتها وألغازها مثلها مثل اللغات القديمة التى اندثرت! تبدو ال «نعم» صادمة وجارحة وقاسية أقصى الألم! إلا أن المرجح وأرجو ألا أكون مخطئًا، ستحتاج بعض الوقت، وستتداخل اللغة والكتابة الرقمية مع الكتابة الورقية! هذا التغير الذى سيتسارع بقوة هائلة يعنى أننا إزاء عالم جديد ومختلف لا نعرفه! كما ذهب إلى ذلك عالم الاجتماع الشهير والراشتاين!، وبما أننا نعيش فى ظل اكتشافاته المغايرة لما ألفناه، فإننا نحاول فهمه والكتابة والتخييل حوله فى ضوء ما نعرفه من كتابة ووعى ومعرفة وأدوات تحليل، والأهم الكتابة عنه من خلال أنساق لغوية ومنطق وتفسير أعدت لفهم عالمنا السابق، حيث تسود النظريات والتجارب التطبيقية والعلوم الطبيعية والاجتماعية التى تم إبداعها فى إطار ثقافة وعلوم الإنسان الطبيعي، ومن ثم سيفرض التحول إلى «الإنسان الرقمى» تغيرات كبرى وقطيعة مع العالم الذى عرفناه! معايير جديدة فى الكتابة الإبداعية والنقدية ستتخلق، وخيال ومخيال رقمى سيتشكل، وذاكرة فردية وجماعية جديدة، كل ذلك سينتج كتابة مغايرة، وربما تبدو لنا مختلفة عن بعض الممارسات الكتابية الرقمية الحالية التى تتداخل فيها عوالم الكتابة الورقية والرقمية معًا! دنيا كتابية أخرى، وتجارب لا نستطيع وصفها، ومكابدة لهؤلاء الذين سيرتحلون سعيًا وراء اللحاق بالكتابة الرقمية وعوالمها المختلفة، وتَعلمُ أبجدياتها الجديدة! السؤال هل ستحمل الكتابة ذات الهموم التى عايشها وكتب عنها الكُتاب والمبدعون والساردون والشعراء الكبار؟ أم أن همومًا مغايرة ستكون شاغل الكتاب الرقميين؟ هل الرواية ابنة المدينة الحديثة والثورة الصناعية وما بعدها هى ذات الهموم؟ هل قضايا الحرية والضرورة، والتحرر، والاستغلال والظلم والقهر والقمع والعدالة .... إلخ هى ذات القضايا التى سيهتم بها كاتب المستقبل الرقمي؟ أم قضايا أخرى ستنبثق، وهموم مغايرة سَتحلُ، وتجارب كتابية جديدة سَتّولد،ُ وجماليات مختلفة، ومعايير جدارة وإبداع جدُ مغايرة، وقطيعة مع ما عرفناه واعتدنا عليه؟ لمزيد من مقالات نبيل عبد الفتاح