شهدت الأعوام الثلاثة الماضية بدءا من عام 2014 تزامنا دراماتيكيا بين أربع مئويات كانت على التوالى مئوية الحرب العالمية الأولي، ومئوية سقوط الامبراطورية العثمانية أو ما كان يسمى الرجل المريض، ومئوية سايكس بيكو واخيرا مئوية وعد بلفور، وكانت مئوية الزعيم عبد الناصر هى الخامسة لكنها أشبه بجهة خارج البوصلة ، وبفصل خامس خارج تقاويم الفصول الأربعة لأنها بكل المعايير كانت الجملة الاعتراضية فى كتاب القرن العشرين . وبينما كانت الحرب العالمية الاولى تضع اوزارها، واقلام الجنرالات الانجلوساكسون والفرانكفون تقسم تضاريس الوطن العربى الى خطوط طول وعرض جديدة تتيح للاستعمار ان يجنى الغنائم ، كانت امرأة من صعيد مصر تعانى المخاض ثم تلد جمال عبد الناصر، الذى كان ما يقارب المائة مليون عربى وعشرات الملايين من إفريقيا والعالم الثالث على موعد معه، ليقول لهؤلاء بأن التغيير ممكن وان الحرية ليست من المحرمات التى تضمنها المعجم الامبريالي، لهذا لا يمكن الفصل بين مئوية عبد الناصر وتلك المئويات السوداء، لأنها كانت بمثابة الرد الحاسم عليها، فهى شطرت التاريخ العربى المعاصر إلى ما قبل عبد الناصر وما بعده، ولكى لا يبقى هذا الكلام فى نطاق الاحتفاء علينا ان نتذكر قائمة من المصطلحات والمفاهيم الجديدة التى ولدت فى خمسينيات القرن الماضى ، فمصر اول جمهورية تُعلَن فى العالم العربى ومفردات كالتحرير والعدالة الاجتماعية ، وجيل القدر والسيادة الوطنية واستقلال القرار لم تكن مطروقة قبل تلك المرحلة ، فالثورة كانت فتنة أو هوجة كما أطلق على حركة عرابي، والرجل المحارب سليل العسكرية المصرية حوصر مع رفاقه فى السلاح أربعة أشهر فى الفالوجا، ورأى عن كثب تلك الكوميديا السوداء من اسلحة فاسدة وتواطؤات فقرر فى داخل الثكنة التى حوصر فيها ان يلعب دورا سيكون فيما بعد فاصلا فى التاريخ المعاصر، وليس معنى ذلك بأى حال التعامل مع عبد الناصر كما لو انه ايقونة او قائد معصوم، فالرجل له ما له وهو كثير، وعليه ما عليه وهو قليل، لهذا فالقراءة الموضوعية لمرحلته التى نسبت الى اسمه يجب ان تكون محررة من الثأرية السياسية والايديولوجية . وهنا اتذكر من بين مئات قصائد الرثاء التى ودع بها الشعراء العرب الزعيم قصيدتين إحداهما لنزار قبانى بعنوان قتلناك يا آخر الانبياء، والثانية لمحمود درويش بعنوان لست نبيا ولكن ظلك اخضر، بحيث تبدو قصيدة درويش أقرب الى الواقعية بسبب انتمائه السياسى المبكر لحزب اشتراكى فهو يعيد عبد الناصر الى بشريته، انسانا يصيب ويخطئ لكن ظله اخضر فى مساحات هائلة من الصحراء والرمال . وحين تحصى منجزات عبد الناصر المتعلقة بالتعليم والتصنيع وتسليح الجيش والحضور الساطع على الصعيد الدولى بدءا من دوره الفاعل والمشهود له فى كتلة عدم الانحياز التى قادها فى ظروف دولية سادت فيها الحرب الباردة بين قطبين ولم تكن تسمح بأى قطب ثالث حتى لو كان عدم الانحياز او ما سماه عبد الناصر الحياد الإيجابى كى يميزه على الحياد السلبى الذى يعنى الانسحاب من الحلبة والانكفاء على الذات فهى استثنائية بامتياز ، والخطأ التاريخى والمنهجى الذى ينبغى على من يكتب عن عبد الناصر ان يتجنبه هو عزل الرجل بل الظاهرة برمتها عن سياقها الزمنى ، فما حدث من تطور فى العالم كله وليس فقط فى الاقليم لا ينسخ بأية حال الادوار الريادية والتأسيسية لقادة أعلنوا العصيان على تعاليم الاباطرة التى افرزتها الحقبة الكولونيالية، تماما كما ان منجزات العلماء فى هذا القرن لا تنسخ ولا تنسى او تتجاهل الروّاد الاوائل الذين عبدوا الطريق . ولسبب ما وجدتنى فى هذه المناسبة اعود الى مجلد اصدرته الاهرام وقدم له الاستاذ هيكل فى ذكرى عبد الناصر وهو سجل بالصور ، روى فيه الاستاذ هيكل حوارا دار بينه وبين الكاتب الروائى ووزير الثقافة الفرنسى فى عهد ديجول اندريه مالرو ، وكان الحوار يدور حول اوجه الشبه والقواسم المشتركة بين عبد الناصر وديجول، ومما قاله الاستاذ هيكل لمالرو ان عبد الناصر كان يردد عبارة ذات مغزى بعيد حين يوصف بأنه قائد الامة العربية ، هى انه تعبير عن هذه الامة اكثر مما هو قائدها، لكن مالرو رد على هيكل بقوله أن عبد الناصر اكثر من مجرد تعبير عن امة عريقة، وكان مالرو فى احد لقاءاته الصحفية قد ذكر اسم الزعيم عبد الناصر مع اربعة هم من اهم الفاعلين فى ذلك الزمن منهم الامين العام للامم المتحدة والرئيس الامريكى والجنرال ديجول، وحين تصفحت الصور فى مجلد الاهرام استوقفنى ما يتعلق بأهم كتّاب ومفكرى ومؤرخى القرن العشرين الذين كانوا يزورون مصر ويعبرون عن إعجابهم بالزعيم ومنهم المؤرخ البريطانى ارنولد توينبى والفيلسوف جان بول سارتر وتشى جيفارا وغيرهم، وتذكرت على الفور الحوار الذى دار بين عبد الناصر وسارتر اثناء زيارة الفيلسوف لمصر فى مارس عام 1966 والذى قال فيه عبارته الشهيرة لسارتر انت تدافع عن دموع الاغنياء وانا ادافع عن دموع الفقراء . والرجل الذى كان يقيم الدنيا ولا يقعدها بقرارات تاريخية كان لديه من الوقت ما يكفى لقراءة المجلات والصحف ، وما ينشره الكتّاب العرب فى مختلف المنابر يومئذ، وللمثال فقط اذكر حادثة رواها السيد سامى شرف هى ان عبد الناصر قرأ ذات ليلة قصة للراحل يوسف إدريس فى مجلة حوار التى كانت تصدرها منظمة الثقافة الحرة التابعة للمخابرات الامريكية فاتصل على الفور بالسيد شرف وطلب منه الالتقاء بالكاتب يوسف إدريس، كى يقول له إن تلك المجلة تنفق عليها المخابرات المركزية الامريكية ، وما يؤكد رواية السيد شرف الكتاب الذى صدر بعنوان «من يدفع للزمار» لفرانسيس سوندرز وهو عن محاولات المخابرات الامريكية اختراق العالم الثالث ومنه مصر بل فى مقدمته لأنها كانت تلعب دورا رياديا فى حركات التحرير . انها المئوية الخامسة التى ردت بها امرأة من صعيد مصر على سايكس بيكو وبلفور والعثمنة وحرب اللصوص الكبار فى مثل هذه الايام قبل قرن!!! لمزيد من مقالات خيرى منصور