اهتمت الدساتير المصرية منذ دستور1923, بقضية التعليم من زوايا مختلفة, وتراوحت تلك الاهتمامات بين مجانية وإلزامية التعليم الأولي للبنين والبنات في مادته ال19 والنص علي أن' التعليم حر مالم يخل بالنظام العام' في مادته.17 أما دستور1964, فقد نص في مادتيه38 و39 علي ان التعليم حق للمصريين جميعا وتكفله الدولة وتشرف عليه وتضمن مجانيته في مدارس وجامعات الدولة, أما دستور1971, فقد أضاف إلي ذلك في مادتيه19 و21, ان التربية الدينية مادة أساسية في مناهج التعليم العام, وأن محو الأمية واجب وطني. والذي يعنيني هنا هو ما يتعلق بالتعليم في الدستور الجديد, خاصة أن نظام مبارك لم يسع إلي صياغة مشروع وطني أو ثقافي لنظامه السياسي ومن ثم للتعليم, فترك مؤسساتنا التربوية بلا هوية ولا إطار, ومن ثم أصبحت لدينا توجهات تعليمية ليست متنافرة فحسب بل متناحرة أيضا, مدارس دولية تدرس مناهج دول أوروبية, ومدارس حكومية يسيطر عليها التطرف الديني, فضلا عن مدارسنا الأزهرية التقليدية, وفي خلال عام ونصف عام من عمر ثورتنا سعت قوي الإسلام السياسي بعد سيطرتها علي البرلمان للسيطرة علي التعليم باعتباره أهم أدوات صياغة المستقبل, وهكذا رحنا نسمع صيحات في البرلمان ذي الأغلبية الإخوانية والسلفية تنادي بفصل البنين عن البنات في المدارس سواء كانوا تلاميذ أو معلمين, وعن إدارة اليوم الدراسي تبعا لمواقيت الصلاة, وعن السعي نحو جعل مادة التربية الدينية الإسلامية والمسيحية وهي مادة أساسية للنجاح والرسوب حاليا, مادة درجات تضاف للمجموع, والعمل علي التزام الفتيات في المدارس بشروط الزي الشرعي, وتأخير تدريس اللغات الأجنبية, كل هذا وغيره دون دراسات محترمة ودون استشارة خبراء مرموقين, وقبل أن يلتفتوا إلي مشكلات التعليم الحقيقية والمزمنة من تدهور الكفاءة والجودة, وتخلف المقررات والمناهج, وانخفاض الميزانية وعدم رضا المعلمين عن مكانتهم ومهنتهم, وانهيار نقابة المعلمين وعجزها عن القيام بأي دور مهني للنهوض بالتعليم. أقول هذا كله دفاعا عن قومية التعليم, فقد كان التعليم والجيش وآليات الدولة المدنية هي مؤسسات صناعة المواطنة والانتماء الوطني في مصر. ويعد بناء المواطنة وغرس الانتماء الوطني أهم أهداف التعليم في الدولة الحديثة. أما المدرسة الحديثة فقد نشأت من أجل المواطنة بالأساس, ففي مجتمع قديم مثل مجتمعنا يتميز بالتنوع الشديد بين جماعاته وسكانه, فهناك المسلمون ملتزمون ووسطيون وصوفية, وهناك المسيحيون علي اختلاف طوائفهم وهناك سكان القري والكفور وسكان المدن والأغنياء والفقراء والأسر الغنية والفقيرة وثقافات تتنوع قدر اتساع الوطن واحات وصعيد ونوبة وسيناوية وغيرها, ولأن كل الفئات المتنوعة لها مثلها وقيمها وخلفيتها الثقافية والاجتماعية. هنا تقوم المدرسة علي الجمع بين أبناء تلك الفئات المتنوعة والمختلفة في مدرسة ذات توجه وطني واحد وفي فصل واحد وعلي مقعد دراسة واحد ومقرر دراسي واحد وامتحان ومعلم معد إعدادا وطنيا واحدا, ليعرفوا لغتهم الوطنية وشعراءهم وأدباءهم الوطنيين وجغرافيتهم وتاريخهم الوطني ومعارك شعبهم في سبيل الحرية والبناء, وهكذا يتكون لدي ابنائنا وعي وقيم ومثل عليا مشتركة, تكون أساسا لانتماء وطني, يصبح هو الانتماء الأساسي ويتحول الانتماء الديني أو الطائفي أو الطبقي أو غيرها إلي انتماء ثانوي. لعلي أقول بطريقة رمزية إن ابناءنا المسيحيين ينشأون في منازل تعلق علي جدرانها صورة للمسيح وصليب, بينما ابناؤنا المسلمون ينشأون في منازل تعلق فيها صورة للكعبة وبعض آيات القرآن الكريم, وتصبح المدرسة هنا هي المسئولة عن اتفاق هذين الابنين علي وضع صور لسعد زغلول أو سيد درويش أو جمال عبد الناصر أو جيفارا أو محمد منير, أو حتي أبو تريكة, حيث تصبح المدرسة بوتقة للمثل الوطنية المشتركة بين أبناء الوطن جميعا. في الحقيقة أنه عندما يرسل الناس ابناءهم للمدرسة فإنهم لا يرسلونهم لكي يصبحوا من الإخوان المسلمين أو الناصريين أو الماركسيين أو غير هذا من انتماء سياسي أو أيديولوجي وإنما من أجل العلم ومن أجل الاهتمام بالشأن العام, ويظل الاختيار السياسي شأنا خاصا لأبنائنا يقررونه مع أهلهم وذويهم. ويظل للأحزاب السياسية في مقارها وبعيدا عن مدارسنا الوطنية,الحق في الدعوة لأفكارها بتأسيس مدارسها الأيديولوجية للطلائع والأشبال والكوادر مادامت التزمت بالقانون وعدم الدعوة للعنف أو للكراهية والتمييز. فهل يلتفت أعضاء الجمعية التأسيسية إلي ضرورة وضع نص بالدستور يحمي قومية مؤسساتنا التعليمية من هيمنة وافتئات أي أغلبية طائفية أو سياسية أو أيديولوجية عليه لكي تظل المدرسة قلعة للمواطنة ويظل التعليم أساسا للتماسك والانتماء الوطني.