يقينا نقول إن منتخبنا الوطنى لكرة القدم سعد حظا باختيار مدينة سان بطرسبورج ساحة لملاقاة نظيره الروسى فى يونيو المقبل فى إطار منافسات المجموعة الأولى لمونديال 2018. فالمدينة هى الأشهر والأجمل، فضلا عن كونها الأحب والأقرب إلى قلوب الغالبية الساحقة من أبناء روسيا، والوطن الأم لمعظم القيادات الروسية وعلى رأسهم فلاديمير بوتين. فسان بطرسبورج هى الأجمل لا شك دون سائر المدن الروسية، والأكثر خلودا منذ فكر بطرس الأول، قيصر روسيا الأعظم فى إنشائها كخط أول للدفاع عن الإمبراطورية الروسية فى مواجهة ملوك السويد وفرسان الفايكنج. وكان بطرس الأول قد اختار فى عام 1703 إحدى الجزر عند مصب نهر نيفا فى الخليج الفنلندى شمال شرق بحر البلطيق، لتكون موقعا لهذه المدينة، التى أطلق عليها فى البداية اسم القديس بطرس أحد حواريى السيد المسيح، قبل أن يعود شعبه لإطلاق اسمه عليها تقديرا وعرفانا لتكون بيترو جراد أى مدينة بطرس. ورغم أن المدينة عادت وبحكم عادة النفاق التى طالما حددت معالم تاريخ كثير من الأوطان، لتحمل اسم لينينجراد تخليدا لزعيم ثورة أكتوبر فلاديمير لينين بعد وفاته عام 1924. وعموما سواء كانت المدينة لينينجراد أو بيتر.. أو بيتروجراد.. أو سان بطرسبورج، فإنها تظل عنوانا للوحة فنية شديدة التميز.. بشوارعها ومبانيها.. بقنواتها التى يبلغ عددها 93 قناة.. بجزرها التى تجاوزت المائة، وبجسورها التى يعدونها 342، وضواحيها المفرطة فى الأناقة، إنها المدينة التى كانت ولا تزال مفردات موسوعة أدبية تضم بين دفتيها إبداعات أبرز رموز الأدب والثقافة والفنون على مر العصور. إنها أنيقة فى غير تكلف، جميلة فى غير تبرج، معالمها تبدو منسجمة فى وفاق مع الكثير مما يجيش فى نفوس المحبين والعشاق، نسماتها مفعمة بأطياب تاريخ تتسلل إلى النفس لتشيع أجواء البهجة المفعمة بقليل من الأسي، حزنا ولوعة على ما كان، ولذا لم يكن غريبا أن تبادر امبراطورة روسيا يكاتيرينا الثانية بتخليد مؤسس المدينة وبانى روسيا الحديثة فى تحفة فنية بالغة الفرادة والتميز على ضفاف نهر نيفا، تمثل بطرس الأعظم وقد شَخَصَ عاليا ممتطيا صهوة فرس جموح، باسطا يده صوب النهر عاليا، فى حزم وقوة وكأنما إعلان عن قراره التاريخى حول إنشاء عاصمته الجديدة سان بطرسبورج فى هذا المكان، فى لحظة تاريخية خلدها شاعر روسيا العظيم ألكسندر بوشكين ذو الأصول الإفريقية فى رائعته الشعرية الفارس النحاسي، التى اختتمها بقوله يا رائعة بطرس.. إنى أعشقك. ولما كانت المدن مثلها مثل البشر، فإن سان بطرسبورج، وما ان تطأ قدماك أرضها حتى تقع فى غرامها من النظرة الأولي، فهى سيدة المدائن التى تأسر القلوب بلياليها البيضاء، وسمائها المرصعة بنجوم الفن والشعر والأدب والموسيقي. إنها المدينة التى يحترق معها الكيان تحت وطأة كبريائها الجميل، إنها مدينة الليالى البيضاء التى قال عنها فيدور دوستويفسكى الأديب الروسى الذائع الصيت فى رائعته التى تحمل نفس الاسم: إنها جميلة.. جميلة. جمالا لا نراه إلا حين نكون فى ريعان الشباب أيها القراء الأحبة!. وإذا كان تاريخ المدينة يستمد أصوله من بداية قرن وصفه راديشيف بأنه خليط بين الحكمة والجنون، فإن ما تلا ذلك من أحداث كان أقرب إلى الجنون منه إلى الحكمة، وإن رأى البعض ما هو على النقيض من ذلك، ولعل ما شهدته هذه المدينة الجميلة الرقيقة التى تحمل عن جدارة واستحقاق اسم العاصمة الثقافية للدولة الروسية على امتداد تاريخها من كرنفال يكشف عن مدى مأساوية وقوع حكامها فى شرك تغييرات الأسماء التاريخية، ومنها الاسم القديم للمدينة، والذى كان اختاره لها مؤسسها بطرس الأعظم. ولم نكن لنستطيع والحديث عن سان بطرسبورج أن نغفل الإشارة إلى ابن قرية نجريد ومحلة مرحوم الشيخ محمد عياد الطنطاوي، الذى وفد إليها بدعوة من القيصر الروسى فى عام 1840 لتعليم اللغة العربية، وليكون أحد أهم مؤسسى مدرسة الاستشراق فى الإمبراطورية الروسية، وهو ما لقى فى حينه أسمى التقدير من جانب الأوساط العملية والرسمية متمثلة فى قيصر روسيا، الذى أنعم على الشيخ الطنطاوى بأرفع أوسمة الوطن، قبل أن توافيه المنية ويدفن فى مدافن مسلميها. وكانت روسيا قد احتفلت عام 2010 بالذكرى المئوية الثانية لمولد هذا الشيخ الجليل، الذى شاءت الأقدار أن تبعث بأحد أبناء قريته نجريد من أعمال مديرية الغربية محمد صلاح أيقونة الكرة المصرية ليجدد على أرض هذه المدينة، ذكرى أسلافه من أبناء الوطن فى مباراة نعلق عليها الكثير من الآمال. وبهذا الصدد نطرح فكرة أن يستهل محمد صلاح ومعه من يريد من أعضاء البعثة المصرية، زيارتهم لسان بطرسبورج بوضع إكليل من الزهور على قبر الشيخ الطنطاوي، تأكيدا لاعتزاز المصريين بمآثر أبنائهم أينما كانوا. ومن الماضى إلى الحاضر ننتقل لنتوقف عند أحد أهم معالم سان بطرسبورج فى ثوبها المعاصر وهو ستاد كريستوفسكى أو زينيت إرينا، الذى يستضيف منتخبنا الوطنى فى مباراته مع المنتخب الروسى فى 19 يونيو المقبل. وكانت عملية إعادة بناء هذا الاستاد الذى يحمل اسم الجزيرة الموجود بين أحضانها قد تعثرت لبعض الوقت منذ بدأ التفكير فى توسعته وإعادة تجهيزه بأحدث تكنولوجيا العصر عام 2007، فيما حفلت بالكثير من المفارقات ومنها ارتفاع تكلفة إعادة البناء بنسبة 548% عن المبلغ المقرر سلفا لهذه العملية لتبلغ فى نهاية المطاف 1٫1 مليار دولار، ويتسع الاستاد الذى يعتبر الملعب الرسمى لفريق زينيت أحد أهم فرق كرة القدم الروسية لما يقرب من 70 ألف متفرج، اكتظت بهم مدرجاته حين شهد حفل افتتاح بطولة العالم للقارات يونيو الماضى فى حضور بوتين ورئيس الاتحاد الدولى لكرة القدم.