من تجليات جدلية التاريخ أن تتحول النهايات أو ما يبدو كذلك إلى بدايات، وأن يعود صراع أوشك أن يصبح داجنا فى أقفاص السياسة والدبلوماسية الباردة إلى المربع الأول، فالضارة احيانا نافعة، وكذلك العقبة حين تصبح كأداء وعائقا يمكن تحويلها إلى رافعة، والقضية الفلسطينية التى تشهد آخر احتلال فى العالم المعاصر لعبت دور البطولة فى الدراما القومية للعرب منذ قرن، وكانت فى الصميم من كل حدث ومثلما قيّض لها التاريخ وفائض الإيثار الوطنى شهداء بالآلاف ابتلاها أيAضا بمن امتطوها إلى أهداف تتخطاها، فباسمها وقعت عشرات الانقلابات والانشقاقات تحت شعار التصحيح فى النصف الثانى من القرن العشرين، وكانت مركز الدائرة ومحيطها أيضا فى كل البيانات العسكرية، لكن ما أصابها من انحسار من خلال إعادة ترتيب الأولويات القومية أدخلها الى طور الاحتضار وراهن البعض على أن نهايتها وشيكة، وأن العولمة ومرادفاتها وما انتهى إليه المشهدان الدولى والإقليمى أفرغها من شحنتها العاطفية على الصعيدين العربى والإسلامى. فلسطين كانت ذات يوم بسعة العالم العربى وبمساحته وتعداده الديموغرافي، لكن ما أصاب العالم العربى من خصخصة الهويات واندلاع المكبوت الطائفى هدد فلسطين بالعودة إلى مساحتها فقط، وأصبح شعار نقبل بما يقبل به الفلسطينيون الذى أعقب أوسلو بمثابة التخلى عن القضية على الأقل فى بُعدها القومي، ولكى لا يستغرقنا التاريخ ونبتعد كثيرا عن اللحظة الراهنة، فإن قرار ترامب بنقل سفارة بلاده إلى القدس كان بمثابة تكريس تهويد القدس انطلاقا من مفهوم تهويد الدولة، وثمة فارق ينبغى ان نشير إليه بين مصطلحى الأسرلة والتهويد، فالأسرلة اقترنت بإعلان الدولة العبرية عام 1948، وتحت شعار غامض هو حرب الاستقلال الاولي، والمقصود بذلك أن حرب الاستقلال الثانية هى الانتقال من الأسرلة إلى التهويد مرورا بما يسمى فى المعجم الصهيونى العَبْرَنة، أى إعادة تسمية الاماكن والمدن والقرى بعد تجريدها من أسمائها العربية الاسلامية التى حملتها قرونا. والتهوين من قرار كهذا كالقول بأنه لا يغير من الحقيقة شيئا به مجازفة وكثير من الشطط، لأن ما هو رمزى سرعان ما يصبح واقعيا، بل هو أمر واقع يفرض على الجميع التأقلم معه، وإذا كان الرئيس ترامب هو أول رئيس أمريكى يوقع مثل هذا القرار وعلى نحو استعراضى ومتلفز فذلك ليس لأن من سبقوه رفضوا مثل هذا القرار، وما كان يحدث هو تأجيله، وانتظار الوقت المناسب إلى أن صوت الكونجرس فى تسعينيات القرن الماضى على القرار وأصبح ملقى على المكتب بيضاوى فى البيت الأبيض بانتظار رئيس مغامر وشغوف بالإثارة كالرئيس ترامب!. والسؤال المتكرر الذى حاولت بعض الصحف الأمريكية ومنها «نيويورك تايمز» الإجابة عنه هو هل كان لدى الرئيس وطاقمه وصهره الحميم من التقارير الاستخبارية ما يكفى لقياس منسوب ردود الفعل دوليا وعربيا على نقل السفارة إلى القدس؟... الأرجح ومن خلال عدة قرائن أن مثل تلك التقارير قد طبخت على عجل خصوصا أن وراء كواليس الإدارة الأمريكية ومجمل مؤسساتها صراع خفي، حيث لم يعد ترامب المايسترو الذى يضبط إيقاعات الدبلوماسية والبنتاجون وحتى المخابرات، ولم يسبق لإدارة أمريكية أن شهدت تبادل هجاء بين رئيس ووزير خارجية أو وزير دفاع، وقد يكون هذا الخلل أحد أسباب اتخاد ترامب قرارات عاجلة، لم يكن قرار نقل السفارة سوى احد نماذجها العديدة. ومن حيث يدرى ترامب أو لا يدرى جاءت ردود الفعل فى العالم كله وليس فى العالمين العربى والإسلامى فقط بالغة القوة وللمرة الثانية فى أقل من ستة أشهر تقف أوروبا ضد قرار ترامب وكانت الوقفة الأولى ما يتعلق بالسلاح النووى الإيراني، وكذلك من قضية المناخ التى انسحبت منها الولاياتالمتحدة وتزامن هذا القرار دراماتيكيا مع عدة تحولات سريعة طرأت على القضية الفلسطينية منها الدور الذى مارسته مصر بنجاح فى المصالحة بين حركتى فتح وحماس، وبالتالى إعادة الضفة والقطاع الى الجذر الوطنى الواحد. ومن تلك التحولات أيضا موقف اليونسكو الذى كلفها امتناع أمريكا عن المساهمة فى تمويلها وإعلان إسرائيل الحرب الإعلامية عليها. هذا بالرغم من أن منظمة اليونسكو أيضا لم تسلم من الدسائس الإسرائيلية التى وقفت بقوة وراء الكواليس لاستبعاد العرب عن رئاسة هذه المنظمة الدولية وكان لها دور مشهود فى إنجاح المرشحة الفرنسية!. وكان لقرار ترامب أعراض جانبية لم يلفت نظره إليها مستشاروه، منها هذه العاصفة السياسية ضد القرار، وهى عاصفة لن تهدأ فى المدى المنظور، كما هدأت تسوناميات أمريكا الجغرافية ذات الأسماء الناعمة. ومن الأعراض الجانبية غير المحسوبة لهذا القرار اعادة العرب الى لحظة تاريخية يتفوقون فيها على خلافات بينيّة، لإدراكهم أن الأمن القومى العربى أصبح مهددا من عدة جهات، بعد أن تصورت بعض القوى فى الإقليم أن العرب الآن هم الرجل المريض، وهى الصفة التى أطلقت على الامبراطورية العثمانية فى خريفها قبل قرن. لقد أدى ذلك القرار الانتهاكى وغير المشروع قانونيا وأخلاقيا إلى اندلاع الحمى فى جسد عربى أوشكت البرودة أن تجمّد شرايينه، فالقدس عاصمة تاريخ وروح وليست مجرد مدينة رغم أن للمدن العربية جميعها مكانة فى قلوب الناس تدفعهم الى الدفاع عنها بكل ما تيسر لديهم أو حتى تعسّر!. والسؤال الآخر الذى يفرضه تسارع الأحداث وتعاظم الشجب وردود الفعل هو هل يمكن للرئيس ترامب أن يعود عن قراره أو يجمّده مرة أخرى على الأقل!. قبل التسرع بالإجابة، علينا أن نحدد مصادر الضغط على الرئيس الأمريكى دوليا وإقليميا ومن داخل الولاياتالمتحدة، وان كان مثل هذا الرهان يبقى قابلا للشك فى جدواه فالرئيس ترامب اعطى للشخصنة فى السياسة أكثر مما يجب، ولهذا اختزل زلزالا سياسيا بالقول انه فعل ذلك كى يفى بوعده لإسرائيل أثناء حملته الانتخابية، متجاهلا أن مرشح الرئاسة له سقف أعلى بأضعاف من سقفه عندما يصبح رئيسا!!. لمزيد من مقالات خيرى منصور