عبر التاريخ واجه "رمضان" ظروفا عصيبة اكتنفت الأمة، مرات عدة، فانتشلها منها، وأعانها على التجاوز الكريم لها. وعاما بعد عام، يثبت رمضان أنه المنقذ، وأنه لا يتخلى عن الأمة أبدا، برغم أنه يأتي هذا العام في ظروف سيئة تمر بها الأمة، مناخيا، واقتصاديا، ومعيشيا، على مستوى الداخل أو الخارج. رمضان وعظم البلاء وطلب الأجر والمثوبة من الله تعالى: فرمضان يأتي هذا العام في قيظ شديد، وشمس حارقة، وحرارة عارمة.. تذكرنا بالآخرة.. وتقتضي رفع الهمة، وإخلاص النية. قال رسول الله: (من صام رمضان.. من قام رمضان.. من قام ليلة القدر: إيمانا واحتسابا..غُفر له ما تقدم ذنبه). وكان الصحابة، وهذا من عُلُو همتهم؛ يصومون اليوم الحار في الدنيا ليوم أشد حرا في الآخرة، من أجل أن يرويهم الله يوم القيامة من باب الريان في الجنة، فمن دخل من لم يظمأ بعده أبدا. كما اختص الله هذه الطاعة العظيمة (الصيام) بين سائر العبادات بقوله: "الصوم لي، وأنا أجزي به". (الصحيحان). الجهاد في الحر: غزوة تبوك نموذجا : ورد ذِكر الحَر في القرآن ثلاث مرات، الأولى في قوله عز وجل في سورة النحل، ممتنا على خلقه: "جعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم". ومرتين في آية واحدة من سورة التوبة، التي تحدثت عن غزوة تبوك. كان الخروج حينها في شدة الحر، حين طابت الظلال والثمار، فقال المنافقون: "لا تنفروا في الحر"، فقال تعالى لرسوله: "قل" لهم: "نار جهنم" التي تصيرون إليها بمخالفتكم "أشد حرا" مما فررتم منه من حر الدنيا "لو كانوا يفقهون" أي: لو كانوا يفهمون. كانت "تبوك" آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان فصل الصيف ساحتها في الفترة الممتدة بين شهري رجب ورمضان من العام التاسع للهجرة، وملابساتها تقودنا للمقارنة بين جهادنا -نحن مسلمي هذا الزمان- وجهاد الرسول وصحبه الكرام. ها هي المدينةالمنورة (طيبة) في عز الصيف، وقد امتدت برحابها الظلال، وران عليها جو من الخشوع، وفي هذه الأجواء صدر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتجهز للخروج إلى تبوك، والهدف، كما قال ابن كثير: "استجابة طبيعية لفريضة الجهاد"، وعند بقية العلماء: قتال الروم وحلفائهم من مستنصرة العرب، كحرب استباقية، بعد أن بلغه أنباء تجهزهم لقتاله. و"تبوك" عين ماء تقع أقصى شمال الحجاز على الحدود مع الشام، وتبعد عن المدينة أكثر من 778 ميلا (نحو 1251 كيلو مترا)، وهي مسافة قطعها الجيش المسلم في 15 يوما ذهابا، ومثلها إيابا، في حين مكث في تبوك 20 يوما، ليبلغ إجمالي وقت الغزوة خمسين يوما. كان عمر رسول الله إذ ذاك نحو واحد وستين سنة، فالغزوة وقعت قبل وفاته بعامين، فلم يعرف جهاد الرسول الإحالة للتقاعد، ولا الخروج إلى سن المعاش، بل قضى حياته كلها في جهد متواصل. وتخلف عدد من المنافقين، وفيهم قال القرآن: "فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وقالوا: لا تنفروا في الحر. قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون.. فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون". (التوبة: 81 ، 82). كان حديث القرآن عن غزوة تبوك أطول حديث عن غزوة في القرآن.. أكثر من بدر وأحد (التي توسعت سورة آل عمران في تناولها).. لكنها "التوبة".. السورة التي "فضحت" الخبايا، وأماطت اللثام عن النفوس، عندما واجهت "ساعة العُسرة"، في ساحة الشرف والكرامة. ومن جهتهم، تبارى المؤمنون في إعداد العدة، وأخذ الأُهبة، والجود بما لديهم من مال.. وجهز عثمان الجيش بما يملك حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم"، وأنفق كل من: عبدالرحمن بن عوف، وعمر بن الخطاب، نصف ماله، بينما جاء أبو بكر بماله كله. وتتوالى المواقف المؤثرة في ثنايا الغزوة بالسورة بين تخلف الصادقين الثلاثة، وبكاء الفقراء ممن لم يستطيعوا الخروج للقتال، بعد أن أعوزهم المال، وإيثار الصحابة أحدهم للآخر بالتمرة وشربة الماء، وقد كادوا يهلكون من قلة الطعام، والماء.. ثم جاءت الخاتمة السعيدة والبيضاء، برجوع الجيش المسلم منتصرا، دون أن يُقتل جندي، من بين الثلاثين ألفا، وهو تعداده. ولدى الرجوع، وكان في رمضان. قال رسول الله على مشارف المدينة: "هذه طابة، وهذا أحد: جبل.. يحبنا، ونحبه". وبعد هذا التحليق الرباني في سماء السورة، وواقع الغزوة.. ليتنا نقارن بين صيفنا وصيفهم، وجهادنا وجهادهم. والأمر هكذا؛ اجعل لحياتك هدفا، وأعد لرمضانك خُطة، وليكن لك فيه: جهاد وهمة واستعلاء.. فعظم الأجر مع عظم البلاء، وجهز الوسائل لمواجهة حر الآخرة قبل حر الدنيا.. قال تعالى عن المنافقين: "وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ". (التوبة : 46). [email protected] المزيد من مقالات عبدالرحمن سعد