لن أحكى عن المبدع القاص والروائى والمترجم والناقد يحيى حقى فقد حكوا عنه وكتبوا ما استطاعوا أو ما تيسر لهم نقاداً وصحفيين وأهل فكر لكن ما يعنينى هنا بعد مشوار حياة دام معه ثلاثين عاما هو أن أحكى عن يحيى حقى الإنسان عفيف النفس كريم الخلق والأمثلة عندى كثيرة أكاد لا أستطيع أن أحصيها لكثرتها.. مساعدته لشباب الكتاب والدفاع عنهم وتمكينهم من النشر فى مجلته (المجلة) أو فى دور النشر التى كان يرى أن إنتاجهم يستحق أن يقرأه الناس.. .............................................. سأحكى هنا عن حكاية كان مسرحها جريدة الأهرام يوم أن دعاه رئيس مجلس إدارتها الأستاذ يوسف السباعى لزيارته فى الأهرام لأمر مهم. لبى يحيى حقى الدعوة فهى من زميل قلم وصديق عمل فى المجلس الأعلى للفنون والآداب يوم كان السباعى يرأسه. جاء يحيى حقى إلى الأهرام خالى الذهن تماما عن سبب طلبه فى الأهرام. عرفت ذلك منه يوم أشار زميلى الأستاذ سليم مباشر إلى زجاج صالة التحرير ثم مال نحوى وهمس: الأستاذ يحيى حقى خارج الصالة يشير إليك. التفت فوجدته فتركت الصفحة التى كانت فى يدى وأسرعت إليه أرحب به وأسأله عن سبب الزيارة. قال إن الأستاذ السباعى طلب مقابلته وأنه ذاهب إليه ليعرف ما هو الموضوع وقد آثرت أن أسال ساعى مكتب الأستاذ يوسف عنك فقادنى إليك. عدت إلى عملى وذهب هو للقاء يوسف السباعى.. جاءنى ساعى مكتب الأستاذ يوسف يطلبنى للذهاب معه إلى مكتب السباعى ولم أكن قد دخلت إليه من قبل. وهناك وجدت الأستاذ يحيى حقى والأستاذ صلاح منتصر. اشار نحوى الأستاذ يحيى حقى وهو يقول محدثا السباعي: هذا هو ابنى سامى فريد الذى حدثتك عنه. رحب بى الأستاذ السباعى وسألنى عن عملى وإن كنت أريد منه أى شيء شكرته وأستأذنت فى الانصراف وعدت أكمل صفحة الأهرام.. ثم جاء الأستاذ يحيى حقى ليودعنى قبل ذهابه. لم اسأله عن سبب الزيارة وتصورت أنها زيارة لبحث شيء من عمل المجلس أو الحياة الثقافية بشكل عام. بعده بقليل جاء الساعى يطلبنى لمكتب رئيس مجلس الإدارة. ذهبت فاستقبلنى الأستاذ صلاح منتصر. أشار نحوى وهو يقول للأستاذ السباعي: سامى فريد بمنزلة ابنه. حضرتك عارف خجل الأستاذ يحيى حقى فلو راح له سامى يسأله سيقول له على كل حاجة! لم أعرف المقصود من هذا الكلام لكن الأستاذ السباعى رفع أمام عينى عقدا رأيته وقال: قل ليحيى بك إننى وقعت العقد أمامك ثم وقع العقد. ما عليك إلا إنك تروح له البيت وتسيب أى شغل معاك وتسأله عن الرقم اللى عايزه وقل يوسف مضى العقد قدامى وبيقول لك اكتب اللى تحبه ما حدش حيقرأ وراك واختر أى يوم لنشر الموضوع والمبلغ واحنا موافقين.. يالا رح له حالا.. سالت قبل أن أنصرف: هو المطلوب حيكتب إيه؟ رد الأستاذ يوسف: من مفكرة يحيى حقى صفحة كاملة .. يالا روح.. اعتذرت عن العمل وركبت أول سيارة أجرة إلى منزل الأستاذ يحيى حقى فى شارع الشيخ الغزالى من شارع العروبة والفرحة ترجنى رجاً لما أحمله معى من البشرى بعد خروجه إلى المعاش.. وكان يؤلمه أشد الألم ما أشيع من أن الأستاذ يحيى حقى باع مكتبته إلى جامعة المنيا وقد كلمنى الأستاذ يحيى حقى فى هذا الموضوع فقال إن جامعة المنيا قد منحته درجة الدكتوراه الفخرية فلم يجد رداً على كرمهم إلا أن يهديهم مكتبته بدوره وقد حدث أن طلبنى يوما لأذهب إليه وفى بيته أشار إلى مكتبته قائلا: خذ منها ما تشاء من روايات وقصص ومسرحيات فكلها لا تهمهم فى جامعة المنيا وإنما المهم هو أمهات الكتب. فى ذلك اليوم حملت معى من مكتبته خمسة كتب وسط دهشته. ذهبت إلى الأستاذ يحى حقى والذى اندهش كيف وقد تركنى منذ ساعة فى الأهرام أن أكون أمامه فى بيته. خير؟ سألنى فقلت إننى أحمل إليه خبرا سعيداً حملّه لى الأستاذ يوسف السباعى. ثم سردت له كل ما حدث من أنهم يريدونه لكتابة المفكرة فى اليوم الذى يريده والموضوع الذى يريده وبالمبلغ الذى يحدده وأن أحداً لن يراجعه فى شىء يفعله.. ثم كانت المفاجأة عندما انفجر الأستاذ يحيى حقى فى وجهى منفعلا بشكل لم أعهده فيه من قبل حتى خشيت عليه فلزمت الصمت. قال بالحرف: أنا لم أشحت بعد.. ماذا تريدون مني؟ أنا لم أطلب الكتابة فى الأهرام ولست أريدها.. هنا سألته وقد امتلات عيناى دموعا لثورته هذه التى لم أتوقعها قلت: لكنك يا استاذ يحيى حقى تكتب فى أماكن أقل كثيرا من الأهرام مكانة وتوزيعا مثل المساء والتعاون والهلال.. يأ أستاذ يحيى أنا من حقى الآن وقد فاجأتنى أنا الذى تصورت أننى أحمل إليك بشرى سعيدة من ابن لأبيه وقد ثرت عليّ كل هذه الثورة. من حقى الآن أن أعرف لماذا كل هذا.. أرجوك.. هدأ الأستاذ يحيى وقد لاحظ ما حدث لى أمام ثورته فقال: يا إبنى أنا من أنا فى الأهرام وفيها كبار الكتاب أمثال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وزكى نجيب محمود ويوسف ادريس وعبدالرحمن الشرقاوى؟ من أنا إلى جوار هؤلاء؟! لن أكون سوى فرد فى كورس كبير.. لن أكون يحيى حقى الذى تعرفه! سألته وماذا سأقول للاستاذ يوسف؟ قال: أنا الذى سأكلمه. عدت إلى الأهرام وذهبت من فورى إلى مكتب يوسف السباعى فاستقبلنى مستبشرا. قلت والحزن يبدو على وجهي: رفض يا أستاذ يوسف. ثم أضفت من عندي: أظنه قال إنه بسبب الصحة لن يستطيع أن يقوم بهذا المجهود لكتابة صفحة كاملة. ابتسم الأستاذ يوسف ويبدو أنه قد فهم كل شىء فقال: اذهب إلى عملك الآن. شكرا. أنا سأكلمه فى المساء وربما استطعت إقناعه. قال لى الأستاذ يحيى حقى وهو يشرح لى ربما لمصالحتى.. يا إبنى من تكلمت عنهم يحتاجون إلى يحيى حقى ليكون معهم.. أنا عريسهم الذى يحتفلون به والذى يبيعون باسمه فهل كثير عليّ أن أكون معهم أم أننى خسارة فيهم فلا أفكر إلا فى نفسي!! قلت: الآن فهمت يا أستاذ يحيى.. سامحنى.. وفى معرض الكتاب بعد هذه الحكاية بسنوات حكيت ما حدث لكريمته الأستاذة نهى حقى وكنا ومعنا الدكتورة فاطمة موسى وعدد من النقاد ونحتفل بذكرى يحيى حقى فى ندوة أقامها المعرض.. حكيت لها الحكاية فقالت إن ما لا تعرفه عن أبى يحيى حقى أنه رغم ظروفه المالية الصعبة لم يتلق مليا واحداً لا من المساء ولا من التعاون ولا من دار الهلال.. أبديت اندهاشى فقالت: هذا هو أبى يا صديقى.. أبى الذى لم نعرفه حتى الآن بالشكل الواجب! قلت: واظننا لن نعرفه مطلقا كما هو وكما خلقه الله.. أضفت: إذن فكلامى عنه حقيقة عندما قلت فى إحدى الندوات إنه قارة هبطنا على شواطئها ولم ندخلها واكتفينا بهذا معتقدين أننا هكذا نكون قد عرفنا يحيى حقى الذى يحتاج منا ما يزال إلى دراسات ودراسات للآن لم تحدث!