قبل أشهر قليلة, اتصلت بالراحل الأستاذ جمال الغيطاني تليفونيا. كنت راغبا في مقابلته لإجراء حوار معه لصفحة الكتب بالأهرام. لم أكن أعرفه شخصيا, وإن كنت أعرف منذ زمن بعيد المثقف المبدع الذي فيه.. لكنه- وبمنتهي دماثة الخلق واللطف اللذين عرف بهما- اعتذر عن اللقاء اعتذارا جميلا.. إلا أنه قال لي: يمكننا أن نتحدث الآن علي التليفون لو أردت. كان ودودا, وطيبا, ومتواضعا, ومثقفا.. ومجهدا أيضا. وقد وشي لي صوته بأنه كان متعبا. ساعتها حسبت أنه تعب الشغل, فالرجل معروف بأنه يعمل كثيرا. لم أكن قد عرفت بعد أنه مريض, ويتلقي العلاج, ويتردد علي المستشفي كثيرا.. لكنني بعد ذلك عرفت. قلت لنفسي: ماشي.. نأخذ كلمتين- علي الماشي- وننشرهما مع صورة ونخلص. غير أن الدقائق الخمس أصبحت ثلاثين( نصف ساعة يعني), وتمنيت أن يطول الحوار لمدة أطول, إلا أن إحساسي بأنني أجهدته جعلني أتوجه إليه بالشكر, وأسفت علي أنني لم ألق هذا المفكر الكبير من قبل.. لكن متي كانت الحياة تعطينا كل ما نشاء؟ علي أية حال, دار الحوار عن الكتب والقراءة والثقافة. قلت له: ماذا تقرأ الآن يا أستاذنا؟ قال: عاكف أنا حاليا علي قراءة الفلسفة الصينية, وأدب الصين, وثقافة الصين. ولماذا الصين تحديدا يا أستاذ؟ قال: لأن الصين منجم لا ينضب من العلم والحكمة والفكر العميق, لم نكتشفه في عالمنا العربي بعد.. وها أنا ذا أحاول اكتشافه. وقال: إن المركز القومي للترجمة بدأ مشروعا ضخما لترجمة الأدب الصيني.. وأثني علي هذا الجهد المشكور. سألته: وهل الناس في بر مصر مازالوا يقرأون؟ قال: نعم.. كثير منهم مازال يقرأ, لكن الحياة الآن صعبة ومرهقة, ولابد أن نتلمس للناس العذر. قلت: هب يا أستاذنا أن شابا ليس بقاريء, ثم رغب في أن يقرأ, طلب من الأستاذ الغيطاني أن ينصحه كيف وماذا يقرأ.. فبماذا تنصحه؟ قال: أنصحه بأن يقوم بجولة في وسط البلد( بالقاهرة طبعا).. وأن يتوقف قليلا أمام فاترينات المكتبات هناك, ويتمعن في عناوين الكتب وأغلفتها.. وإنه حتما سوف يجد كتابا يروق له.. وإذن فليتقدم ويشتره ويبدأ في القراءة..( والقراءة ها تجيب بعضها).. وراح الغيطاني يعدد لي أسماء المكتبات التي كان يحفظ أماكنها عن ظهر قلب.. ولم لا.. وهو القاريء الكبير؟ قلت: وهل يمكن أن تنتخب لهذا الشاب بعض العناوين؟ قال: عليه أن يبدأ بقراءة بعض كتب أساتذتنا الكبار; مثل طه حسين ونجيب محفوظ, ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس.. وطبعا الأستاذ يحيي حقي. وهنا لاحظت أن نبرة صوت جمال الغيطاني قد تغيرت حتي كدت أشعر بارتعاش قلبه عندما تذكر يحيي حقي. قال: يحيي حقي ده أستاذنا كلنا, وقد تعلمت منه الكثير, ولم تكن اللغة عنده كمثلها عند أي أديب آخر. قلت: ولكن كيف تقرأ أنت؟ قال: إن القراءة عندي ثلاثة أنواع; القراءة العادية لمتابعة ما يجري حولي( كالصحف اليومية والمجلات الثقافية وغيرها) وهذه أقرؤها في الصباح وأنا في مكتبي بالأخبار.. ثم هناك القراءة الأدبية, وهي التي أمارسها عند عودتي إلي البيت.. وهناك القراءة المتعمقة; كالفلسفة والتصوف( ثقافة الصين مثلا) وتلك قراءة أعكف عليها ليلا.. حيث يتطلب هذا النوع من القراءة تركيزا وذهنا صافيا. .. ثم أسر لي الأستاذ الغيطاني بأنه- عندما يسافر- فإنه يصحب معه مجموعة أثيرة من الكتب لا يتركها أبدا في حله وترحاله.. وهي مقربة إلي روحه وعقله, ويعتبرها جزءا من عائلته.. وأوضح لي أن من بين تلك الكتب القرآن الكريم, والفتوحات المكية لابن عربي, وديوان الحماسة لأبي تمام, وأيضا ديوان المتنبي. .. وهكذا- وبكل الامتنان- شكرت الرجل, ووعدني بلقاء معه قريب, أو بمكالمة منه لي.. إلا أنه لا المكالمة أجريت.. ولا اللقاء تم.. ولن يتما.. فالغيطاني رحل تاركا لنا ذخيرة من الإبداع والإمتاع والفكر لا تنفد. رحم الله جمال الغيطاني.. وأعطاه في آخرته قدر ما أعطانا من المتعة والأمل.