كُنّا فى الثانوية العامة حين حصل الأستاذ نجيب محفوظ على جائزة نوبل.. كُنّا نعرف الكثير عن الفائز ونعرف القليل عن الجائزة. كانت القراءة فى الريف فى ذلك الوقت سمةً أساسية للطلاب، كُنّا نتبارى فيمن هو أكثر إلماماً وأوسع اطلاعاً.. وكانت قراءة نجيب محفوظ من معايير الجودة والامتياز. (1) كان من حظّى أنّى قابلت الأستاذ نجيب محفوظ بعد حصوله على جائزة نوبل بثلاثة أعوام.. كان ذلك فى ديسمبر عام 1991، وكانت المناسبة هى احتفال كلية الاقتصاد والعلوم السياسية فى جامعة القاهرة بعيد ميلاد نجيب محفوظ الثمانين. قال لى أستاذى الدكتور علىّ الدين هلال: استعدّ لتكون الطالب الذى يقابل نجيب محفوظ. لم أتخيل ما سمعت.. قلت له: أنا سأقابل نجيب محفوظ؟.. قال: نعم.. بما أنك رئيس اللجنة الثقافية فى اتحاد الطلاب، فستكون معى ومع سيادة العميد الدكتور أحمد الغندور، فى استقبال الأستاذ نجيب أثناء زيارته للكليّة. كنتُ سعيداً للغاية.. إنه لشرف عظيم لطالب جامعى أن يشارك فى استقبال حائز «نوبل». (2) بعد سنوات أتيحت لى الفرصة من جديد للقاء الأستاذ نجيب محفوظ، وقد تردّدت على مجلسه فى مركب «فرح بوت» على نيل الجيزة، وفى فندق «موفينبيك».. عدة مرات. وكثيراً ما استمتعت بمناقشات أساتذتنا: «الأبنودى والغيطانى والقعيد» مع الأستاذ، وفى مجلسه تعرفت على الأستاذ زكى سالم الذى نشر لاحقاً مقالاً عن ترتيبى وحضورى لقاء «زويل ومحفوظ». (3) كان الدكتور أحمد زويل قد قرر إصدار كتابه «عصر العلم» وهو واحد من أروع كتب السيرة الذاتية فى كل الفكر العربى.. ولقد تشرّفت بتحريره، ولا تزال مقدمتى لهذا الكتاب «التاريخى» مصدر اعتزاز دائم وفخرٍ لا ينتهى. اقترحت على الدكتور زويل أن يكون هناك تقديم للكتاب، وأن يكتب التقديم الأستاذ نجيب محفوظ. وقد أعجب الدكتور زويل بالفكرة ورحب بها على الفورْ. قلت له: سأتحدث إليه وسأذهب لزيارته، وسأظل أتواصل معه حتى كتابة المقدمة. (4) قلت للأستاذ جمال الغيطانى: أريد مساعدتك فى أن يكتب الأستاذ نجيب محفوظ مقدمة كتاب الدكتور زويل «عصر العلم».. حتى يلتقى صاحبَا «نوبل» فى كتاب واحد. بعد قليل.. طلب منى الأستاذ الغيطانى المجىء إلى «فرح بوت» لعرض الأمر على الأستاذ. ذهبتُ إلى هناك فى الموعد المحدد، ولم أكن -بالطبع- غريباً على المكان ولا على من فيه.. لكننى هذه المرة قادم بهدف الحصول على «كلمة» من الأستاذ. ما إنْ رآنى الأستاذ نجيب محفوظ حتى قال: كيف حال أستاذنا أحمد زويل؟.. قلت له: بكل خير.. سيأتى لزيارتك.. قال: يمكننى أن أذهب أنا إليه.. قلت: هو يريد أن يأتى إليك. وربما يكون هنا بعد ساعة. (5) قال لى الأستاذ: وماذا عن كتاب «عصر العلم»؟.. قلت له: إن الدكتور زويل كما تعلم قد توصّل إلى زمن جديد هو «الفمتوثانية»، وهى تعادل الواحد على المليون على البليون من الثانية، وهو أدق زمن فى تاريخ العلم.. وهو يعادل ما قدره ثانية واحدة فى فيلم سينمائى يستغرق عرضه (36) مليون سنة! ويعكف الدكتور زويل الآن على دراسة الخلية بموجب هذا الزمن، فهو يدرس مكاناً متناهى الصغر بزمن متناهى الصغر.. يدرس ما دور الخلية بما دون الثانية. والأمل من ذلك هو إحداث نقلة فى الطب الجزيئى أو ما بعد الطب الحديث.. والتعامل مع المرض فى لحظة تشكّله.. أو التعامل فى زمن ما قبل المرض. (6) فاجأنى الأستاذ نجيب محفوظ بالقول: إذن فالدكتور زويل ينتقل من السيطرة على الزمان إلى السيطرة على المكان! وقد ذهلتُ وذُهل الحضور من تلك الجملة الجامعة المانعة، كما يقول أهل المنطق.. وقد قلت مبهوراً: هو هذا يا أستاذنا.. قال لى: إذن اكتُب.. سأُملِى عليك. كتبتُ بخطّ يدى مقدمة نجيب محفوظ لكتاب «عصر العلم»، وقام الأستاذ بالتوقيع فى نهاية الصفحة بخط يده. كان نجيب محفوظ يُملِى علىّ المقدمة كأنه يقرأ من كتاب.. وقد تشرفتُ كثيراً بأنه ذكر اسمى فى تلك المقدمة. وكثيراً ما كنتُ أقول لأصدقائى بعد كتاب «عصر العلم»: يمكننى أن أعتزل الآن وأكتب مذكراتى.. ذلك أن اسمى أصبح خالداً فى كتاب يحمل توقيع اثنيْن من حائزى «نوبل». (7) جاء الدكتور زويل بعد ساعة.. وأصبح لقاء السحاب بين العملاقيْن.. وكأنه مشهد من خارج العصر.. بعضه من ماضٍ تليد، وبعضه من مستقبل بعيد. كُنّا فى لقاء قمة عالمى بين العلم والأدب.. قضيْنا مائة دقيقة فى رحاب التاريخ. حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر..