بالنسبة لي, وبدون أي تزيد, أعتبر صديق العمر, وزميل الكفاح الراحل, د.أحمد عبد الله رزه, واحد من صناع الضمير الوطني لجيل كامل من أبناء الوطن. هو جيل السبعينات, وأحد الآباء الحقيقيين لثورة25 يناير الفريدة, جنبا إلي جنب مع كوكبة من عظماء هذا الوطن العظماء, الذين غادروا دنيانا دون أن تتكحل عيونهم بمعايشة لحظة تحقق الحلم التي عاشوا من أجلها: د.عبد الوهاب المسيري, ود. محمد السيد سعيد, والمحامي نبيل الهلالي, وآخرون كثر.. ضحوا في صمت, ورحلوا في كبرياء, دون ادعاء أو تظاهر, أو سعي لمغنم, أوبحث عن مكافأة. كان أحمد, منذ يفاعته, بالغ الذكاء والشجاعة, وامتلك حضورا شخصيا نافذا, يتسلل به إلي القلوب والوجدان, وقد زاملته في عضوية اللجنة الوطنية العليا للطلاب, التي قادت ثورة شباب مصر, في أوائل عقد السعينيات الماضي, احتجاجا علي هزيمة1967, وطلبا لتحرير أرض الوطن المحتلة. ويشهد كل من عايش هذه الفترة المهمة من حياة مصر والمصريين, بالدور القيادي الكبير الذي اضطلع به طالب كلية الاقتصاد والعلوم السياسية, أحمد عبد الله, يدعمه في ذلك كاريزما شخصية آسرة, وبلاغة خطابية بديعة, تستدعي مأثورات عظماء الثورات الكبري في تاريخ مصر والعالم, وستظل محاوراته تحت سقف قاعة الاحتفالات الكبري قاعة جمال عبد الناصر, وفي جلسة استماع مجلس الشعب, وفي المفاوضات المارثونية مع ممثلي النظام, في أسبوع الاعتصام الطلابي العظيم(17-24 يناير1972), مع زملائه الطلاب وعناصر النظام الساداتي, لما يوضح كفاءاته الشخصية من جانب, ووعيه السياسي الثاقب من جانب آخر, كما كان شعار الانتفاضة الطلابية, الذي ساعد في بلورته: كل الديمقراطية للشعب, كل التفاني للوطن, نبوءة مبكرة بمحورية قضية الديمقراطية, في النضال من أجل تحرير الوطن وتحرر المواطن. وفي حدود هذه الشهادة السريعة, سأتناول بعض شذرات تشير إلي جوانب بارزة في مسيرة الراحل الكبير, الذي اختار يوم الهول, يوم وداع, فغادر دنيانا في5 يونيو2006, وهو في قمة عطائه الفكري والإنساني. (أ): مسئولية المثقف: يمثل أحمد عبد الله رزه, حقا وصدق, النموذج المثالي لفكرة المثقف العضوي, كما صاغها أنطونيو جرامشي. فهاهو فتي نابغة, من أصول شعبية, يدير ظهره لكل فرص الصعود الطبقي والاجتماعي, المفتوحة علي مصراعيها أمامه, ويختار عن وعي قاطع انحيازه الكامل لأبناء الطبقه المسحوقة من الفقراء والبسطاء والمهمشين, يعيش بينهم, ويناضل من أجل تحسين أحوالهم, ويدافع عن حقوقهم, ويجد رغم علمه المتبحر, وما يتقنه من لغات أجنبية, وشهادة الدكتوراه التي نالها من جامعة كمبردج لغة مشتركة, تمكنه من التواصل الحميم معهم. (ب): الإيمان بالشباب: كان أحمد عبد الله أكثرنا إيمانا بالأجيال الجديدة من أبناء الشعب المصري, ومعرفة لما تمتلكه من قدرات ومواهب. وقد أدرك مبكرا عوار قطاعات نافذة من النخبة, الإنتلجنسيا, السياسية والثقافية, بل والدينية أيضا, التي أصبحت معوقا أساسيا من معوقات التقدم. لكنه لم يقف أمامها مسحوقا ولا انشغل بالحروب الدونكشوتية ضدها, وإنما ارتحل إلي المستقبل للالتحام بمفجري الثورة القادمة, الأطفال والشباب, فأسس مركز الجيل للدراسات الاجتماعية والشبابية, كفضاء تربوي وتوعوي مفتوح, ومن الطبيعي لشخصية مستقيمة, متسقة مع نفسها, كهذه أن يختار له موقعا وسط بيئته التي نمي فيها, والتحم بمكوناتها البشرية والمكانية, عين الصيرة, الحي الشعبي الأصيل, وفاء وانتماء. (ج) انتقام الدولة العميقة: ويبقي في هذه العجالة أن أشير إلي الحصار الذي فرضته الدولة, بأجهزتها ومؤسساتها علي هذه الشخصية الوطنية البارزة, رغم مواهبه وقدراته الكاسحة, عقابا وانتقاما, فلقد وقفت أجهزة الأمن, التي ناصبته العداء حتي رحل, ووقف عدد من( المثقفين!!) المشهورين, بقوة ولؤم وانتهازية, ضد أن يسمح له بأن يمارس حقه المشروع في العمل واكتساب الرزق, لكنه أبدا لم يكفر بوطنه أو يتنكر لناسه, وكأني به وقد غادرهما, ولسان حاله, مثل كل المحبين العظام, يردد قول الشاعر: بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن جاروا علي كرام.