حين أقود سيارتى فى شوارع القاهرة وأرى "الميكروباصات" تترنح فى الشوارع وتقطعها بالعرض وتتوقف حيث شاءت وتهاجم السيارات العزل دون ضابط ولا رابط، أجدنى أتذكر المثل المصرى الشعبى القديم "ملاعيب شيحة".. وحين أشاهد إعلام الفلول وهو يتلاعب بالحقائق ويسعى إلى قلب الناس على الثورة فى محاولة لإعادة إنتاج نظام نحاول جاهدين إسقاطه حتى لايعود بنا إلى ما كنا لانطيقه ونسعى جاهدين إلى أن نخرج من تلك الهاوية إلى مستقبل جديد لهذا البلد فإننى أتذكر "ملاعيب شيحة".. وتعود عبارة "ملاعيب شيحة" فى المثل المصرى الشعبى إلى "جمال الدين شيحة "، وهو أحد " أصدقاء الظاهر بيبرس وواحد من أعوانه الذين كانوا يساعدونه على محاربة أعداء المسلمين بما امتلكه من دهاء وقدرة عجيبة على التنكر والتخفي وتقمص الشخصيات، وكان يهوى الاستيلاء على القلاع وامتلاكها، تماماً كما يفعل أباطرة الإعلام فى "المستقل" فى هذه الأيام. بالأمس كنت فى طريقى إلى مقر عملى بجريدة الأهرام وبينما كنت أفكر فى كل تلك الملاعيب و تتقاطع فى ذهنى أحوال المهنة وما سوف تؤول إليه بعد أن تنتهى لجنة إختيار رؤساء تحرير الصحف القومية من عملها وأثر ذلك على مستقبل المهنة، فوجئت بقرار الكاتب الصحفي صلاح منتصر بتقديم إستقالته من المجلس الأعلي للصحافة, باستقالة مسببة من عضوية لجنة اختيار رؤساء تحرير الصحف القومية إلي الدكتور أحمد فهمي, رئيس مجلس الشوري. وبصراحة فإننى لم أستطيع أن أخفى هذا المزيج من الفرحة والدهشة والإستغراب بهذا القرار خاصة حين قرأت مسببات الإستقالة، فقد قال في خطاب الاستقالة "إنني لاحظت وعرفت عن أشياء لا تجعلني أعفي نفسي من الشكوك التى أشعر معها بعدم الارتياح إلي ما سوف تصل إليه اللجنه من قرارات, وأضاف قائلا: وكما يحدث للقاضي في المحاكم عندما يؤرقه ضميره, ويطلب التنحي قبل أن يصدر الحكم, ولأنني أخشي أن يكون وجودي في اللجنة وسيلة لأهداف لا أرضاها أو أقبلها فإنني أعلن استقالتي." أما شعور الفرحة فنابع من أن أحد كبار الصحفيين قد أعلن أخيراً على الملأ أن عليه وبالتالى على كل إعلامى مهمة جليلة، وأن كونه صحفياً لايعنى فقط أن يهتم بإصدار الصحف ونقل الأخبار وكتابة المقالات بل إن دوره أكبر من ذلك وأعظم وأقل ما يوصف به كما أشار فى معرض حديثه هو أنه قاضٍ ينبغى أن يؤرقه ضميره عند كل حرف يكتبه وأنه ينبغى أن يؤرقه ضميره عند عرض كل مظلمة أو فساد يأتيه النظام دون أن يخشي فى الحق لومة لائم ودون أن ينحاز إلى طرف النظام الذى كان قد عينه فى منصبه وأن يتخلى بوازع من ضميره عن منصبه لو شعر بأن هناك ثمة خلل أو تعارض بين مقتضيات وواجبات تلك المهنة النبيلة و ذلك الضمير الحى وبين مطالب النظام... أما سبب الدهشة فهو أن الأستاذ صلاح منتصر هو الوحيد الذى شعر بهذا الشعور دون غيره من أعضاء المجلس الأعلى للصحافة من كبار وقدامى الكتاب وجميعهم لاشك عندى فى أن ضميرهم المهنى والأخلاقى يضاهى ويماثل ضمير الكاتب الكبير، ومع ذلك لم يبدو أن أحدهم قد شعر بما شعر به ولم يخرج أحد منهم علينا باستقالته كما فعل كاتبنا الكبير... وأما سبب الإستغراب فمناطه أن الكاتب الكبير قد عمل دهراً فى الصحف القومية وكان بلاشك يعلم مدى سيطرة النظام السابق على الصحف القومية وتوجيه قياداته التى يختارها بعناية لتحقيق أهدافه بما يضمن كبت كل معارضة لهذا النظام، ومع ذلك لم يخرج باستقالته فى هذه الأيام العصيبة التى ذهبت بالمهنة إلى ماكان لاينبغى أن تذهب إليه، بل إنه بعضويته للمجلس الأعلى للصحافة قبل ذلك لم يعترض أبداً على غياب المعايير المهنية فى إختيار بعض من رؤساء التحرير والآن نجده يتشكك فى لجنة إختيار رؤساء التحرير التى تنزع إلى اتخاذ معايير حتى وإن اختلفنا معها إلا أنها بذلك تصبح المرة الأولى منذ فترة طويلة يتم فيها الإستناد إلى معايير لاختيار قيادات الصحف.. لست هنا بصدد الدفاع عن لجنة إختيار رؤساء التحرير، فأنا لا أظنهم فى حاجة إلى أن أدافع عنهم ولا أنا فى حاجة إلى ذلك، بل إننى فى انتظار أن يثبتوا مدى حياديتهم ومصداقيتهم من أجل تلك المهنة ومع ذلك أرجو أن لايكون الهدف من عمل هذه اللجنة هو تمكين أحد الأطراف من السيطرة على المؤسسات الصحفية القومية تمهيداً لامتلاكها كما كان يفعل "شيحة".. وهنا ينبغى أن أطرح عدد من التساؤلات فى غاية الأهمية خاصة وأن الإجابة عليها سوف تحدد مصير تلك المهنة ربما لعقود، فهل القضية الحقيقية لإعتراض الأستاذ هى أن ينتقل الإعلام من سيطرة النظام إلى سيطرة الإخوان؟ وماذا قدم هذا الحشد من كبار وقدامى الإعلام من أجل إصدار قانون يكفل حرية الصحافة وتداول المعلومات وقد كانوا هناك فى هذا المكان لعقود؟ّ! وهل أخُتزلت القصية فيمن يترأس تحرير الصحف القومية وكفى دون البحث عن معايير تضمن مهنية هؤلاء؟! وما هو موقف المجلس من ملكية الصحف والقومية وقضية الدمج ومدى تأثير ذلك على المؤسسات؟!!... لا أظن أن الأستاذ صلاح منتصر قد أخطأ باستقالته لأنه من حق الكاتب الكبير أن يتخذ مواقفه التى تعبر عن ضميره، وضميره هو فقط، ولكنه على الرغم من ذلك عليه أن يطرح أسبابه والتى اكتفى بالإشارة إليها ولم يعلنها صراحة رغم أن ذلك حق ليس فقط للجماعة الصحفية ولكن أيضاً للشعب بأكمله بصفته المالك الحقيقى لتلك المؤسسات ، وأيضاً سأظل فى إنتظار مواقف باقى أعضاء المجلس الأعلى للصحافة التى تعبر عن ضمائرهم هم أيضاً وإجاباتهم عن ما طرحته من تساؤلات وأيضاً فى رؤيتهم لعمل الجنة التى لازالوا يعملون معها رغم تشكيك الكاتب الكبير فى مصداقيتها، علنى أتعلم منها ما ينفعنى وينفع مهنتى فى خضم هذا الموج العاصف الذى يعصف بالمهنة بينما أواجه فى كل لحظة فى الشارع وأمام شاشات الفضائيات "ملاعيب شيحة"... المزيد من مقالات أحمد محمود