كان علينا .. منذ أتينا تلك الأرض الملعونةْ ْ أن نملأها أو نزرعها بالأفكار المجنونة ْ وأتى قابيلْ واغتال مع اليوم الأول فينا هابيل ْ ومضينا .. كلٌ منَّ يغمد سكينَهْ فى ظهر أخيه ويعود ليغتصبَ الزوجَ المسكينة ْ.. والحقُ قتيل ْ هذا مقطع من ديوان «هكذا تكلم المتنبي» الفائز بجائزة البابطين للإبداع الشعرى لأفضل ديوان، للشاعر «أحمد عنتر مصطفي»، الذى يهتم شعره بقضايانا الإنسانية والقومية، ومسكون بالتراث العربي. له عشرة دواوين منها «مأساة الوجه الثالث»،«مرايا الزمن المعتم»، و«الذى لا يموت أبدًا»، و«أغنيات دافئة على الجليد»، و«حكاية المدائن المعلقة»، و«أبجدية الموت والثورة». وصدرت أعمال الكاملة مؤخرا، ويكتب المقالة النقدية، وشعر للأطفال، وساهم فى إثراء الحياة الثقافية طوال نصف قرن. وفىأثناء عمله بالثقافة الجماهيرية كمسئول عن سلسلة «الأعمال الكاملة» اهتم بشعراء الأقاليم. حُزت مؤخرا جائزة البابطين للإبداع الشعرى لأفضل ديوان، فماذا تعنى لك جائزة عربية لها قيمتها المادية والأدبية، خاصة أنها أول جائزة تحصل عليها؟ تعنى لى الكثير لأنها المرة الأولى التى أحظى بتقدير بعد خمسين عاما فى حضرة الشعر. وقيمة هذه الجائزة من كونها تصدر عن مؤسسة عربية تُعنى بالشعر واللغة العربية، وتبذل جهدا دائبًا للحفاظ عليهما. جهدا تنوء بحمله مؤسسات حكومية ضخمة. ومنذ دورتها الأولى قدمت «معجم الشعراء العرب المعاصرين»، وتتوهج منذ ثلاثة عقود بدوراتها ومؤتمراتها؛ فى أنحاء العالم للتواصل مع الإبداع الشعرى العالمي، وإقامة جسور تواصل بينه وبين المنجز العربي. وما يضاعف قيمتها لديْ أنها جائزة مُحكّمة ومشهود لها بالنزاهة والشفافية حيث تتشكل لجانها من كوكبة من نقاد الشعر فى أقطارنا العربية وتمر عمليات الفحص بمراحل مختلفة وفى سرية تامة، ولا تتدخل فى نتيجتها أهواء ولا مصالح، والشاعر عبد العزيز سعود البابطين الأمين العام للمؤسسة نفسه يُفاجأ بأسماء الفائزين بعد اتفاق اللجان عليها. وماذا عن ديوانك الفائز «هكذا تكلم المتنبي»؟ حرصت أن أقدم فيه مجموعة من قصائدى تنعكس على مراياها المراحل المختلفة التى مرت بها قصيدتى الشعرية، وحين عزمت التقدم للجائزة، كانت قد اجتمعت لى تسع قصائد جديدة لم تنشر؛ وهذا العدد لا يكفى من حيث الحجم لإصدار ديوان جديد يعبر عن تجربتي، ويكون جديرا بالتنافس على الجائزة، وتذكرت أن العقاد أصدر قبل رحيله «ديوان من دواوين» جمع فيه قصائد مائزة من دواوينه السابقة. فبدأت العمل على تكرار التجربة؛ وهى تتيح لمن لم يطلع على المجموعات الشعرية السابقة أن يجدها بين يديه. وبذا قدَّم «هكذا تكلَّم المتنبي» جماع التجربة الإنسانية والرؤية الفنية لكل مراحل مسيرتي، معبرا عنها بأفضل قصائدي. ولماذا المتنبي؟ الديوان يحمل اسم إحدى أهم وأحب القصائد إلى نفسي، كتبتها إثر محنة عابرة مررت بها؛ ولم ينقذنى من عواقبها إلا شاعر العربية الأكبر الذى ضخ شعره الذى أحفظة طاقة للتحدى والمواجهة. والمتنبى بالنسبة لى ليس مجرد أحد شعراء العربية، إنه شكسبير العرب وعلى المستوى الشخصى - وهذا ما يدركه القارئ إذا توقف عند مطلع القصيدة - إننى أحس به مقيما داخلي. ففى سن مبكرة قادتنى كلمات معلم التاريخ - وليس معلم اللغة العربية - فى المرحلة الإعدادية إلى عالم هذا العبقري، كان الأستاذ عرابى رحمه الله، يتحدث إلينا عن زواج خمارويه وقطر الندى فى عصر الدولة الطولونية، ثم عرج على الدولة الإخشيدية وذكر كافور وتحدث عن زيارة المتنبى لمصر وهجائه له وألقى بصوت رخيم- لا يزال يرن فى مسمعي- أبياتا من «عيد بأية حال عدت يا عيد» ومن فصلى الدراسى إلى مكتبة المدرسة، وكانت مكتبات المدارس عامرة بالمجلدات والرواد آنذاك!، وسألت أمينها عن كتاب يضم شعر المتنبى ولم أكن أعرف مصطلح ديوان الذى يطلق على نتاج الشعراء، ومنذ ذلك التاريخ المتنبى لا يبرح جسدى ويقيم فى وعيي. أما عن اسم الديوان فقد استلهمته من كتاب شهير للفيلسوف الألمانى نيتشه بعنوان «هكذا تكلم زرادشت» قرأته عن ترجمة قديمة ل «فلكس فارس» فى السبعينيات ورأيت فى نيتشة مايتفق فيه مع المتنبى من حيث العنصرية والتعصب للعرقية والحِدَّة والقوة فى مواجهة العالم. تكتب المقال النقدى أيضا.. فكيف ترى علاقة الشعر بالنقد؟ داخل كل شاعر ناقد صغير تكَوَّنه تجربته الإنسانية ووعيه الثقافى وممارساته الإبداعية. وهذا الناقد يشارك المبدع لحظات إبداعه فيدفعه لتفضيل كلمة على أخري، ويوحى إليه بتبديل النسق هنا أوهناك؛ أو يدفعه لإقصاء فكرة ما. كل ذلك خلال رحلة الإبداع التى يظن المبدع أنه مهيمن عليها كليةً. هذا الكائن العابث قد يتعهده المبدع إذا تعرف إليه بالقراءة الواعية والثقافة الممنهجة، وما إلى ذلك من آليات المنطق والفلسفات إذا شاء أن يستوى ناقدا. وأنا ككل المبدعين لدى هذا الهاجس النقدى الذى تكَوّنَ لديْ من خلال الممارسة الإبداعية والثقافية، لست ناقدا، ولا أتطلع، بالمفهوم الأكاديمى أو المصطلح العلمي. إنما أكتب من خلال ذائقة فنية آراءً إنطباعية فى مقالات عن الشعر والأدب والفن. رائدى فى ذلك الراحل رجاء النقاش الذى أراه من أقدر النقاد على فهم الشعر العربى وتذوقه. وهنا يجدر أن أشير إلى أن عددا كبيرا من نقادنا بدءوا مسيرتهم شعراء ولكن غواية النقد ودراسته وصرامة المنطق ويقظة العقل حادت بهم عن درب الإبداع الشعرى الذى يتطلب مساحات من الطفولة الإنسانية والعفوية التى لا يستقيم معها التبرير والتدليل والتعليل، ولنا فى العقاد شاعرا وناقدا دليل على ذلك. ديوانك «أبجدية الموت والثورة» قصيدة واحدة.. ألم تخش تململ القارئ من طولها؟ هو قصيدة طويلة تتألف من ثمانية عشر مقطعا، بعدد حروف العنوان؛ كتبتها على مدى 20 سنة ومقاطعها تعرض لما مرَ بمصر والوطن العربى من أحداث ووقائع خلال عقديْ السبعينيات والثمانينيات حتى أوائل تسعينيات القرن الماضي. ولك كتاب «كائنات وترية».. فأى كائنات تقصد؟ أقصد الشعراء.. أى شاعر حقيقى وترٌ مشدود توقع عليه المقادير أنغامَها.. والكتاب مجموعة مقالات عن الشعر والشعراء المصريين والعرب، كلها قراءات إبداعية فى قصائدهم ونصوصهم، وأتبعته بكتاب آخر فى السياق نفسه عنوانه «أوتار العازف القديم». وكتبت الشعر للطفل فى شكل ألغاز عن شخصيات تاريخية وأسطورية وفنية عربية وعالمية.. فما كان دافعك، وما رأيك فيما يكتب للطفل الآن؟ الكتابة للطفل أصبحت مهنة من لا مهنة له، مع أنها من أصعب أنواع الكتابة، خاصة مع انتشار ثقافة الصورة على حساب الكلمة، لذا لابد من مواكبة ذلك واستثماره للارتقاء بخيال الطفل، ويجب أن تصبح الكلمة مرئية ومتحركة مع عدم فلسفة سلوك الصغير، وللأسف ليس لدينا رؤية متكاملة لصياغة إبداع الطفل، ولكن أحيى جهودا سابقة أخرجت مجلات راقية للأطفال وخلقت نموذجا عربيا للفتى البطل مثل ماجد وعلاء الدين فى مواجهة ميكى ماوس وبيترمان، وكانت مصر فى الخمسينيات رائدة هذا المجال فى محاولات كامل الكيلانى الجادة ومجلة «سندباد» التى كان يرسمها الفنان بيكار. وعلينا الاهتمام بمثل هذه المجلات والأفلام والرسوم المتحركة الهادفة، وذلك كله لن يجدى نفعا دون الاهتمام بالتعليم وآلياته الحديثة من حيث المناهج الدراسية وطرق التدريس، فالمسألة أعمق وأشق من مجرد الكتابة للطفل.