الله سبحانه وتعالي خلق الإنسان عاقلا غير متشابه, تتعدد طرق تفكيره, وتصوره للأشياء, والاهتمامات, وردود أفعاله للأحداث, والقدرة علي الفعل. ومن هذا التنوع يكمل الناس بعضهم بعضا وتتقدم الحياة, وهذه سنة الحياة منذ وجد الإنسان علي الأرض, بالصورة التي خلقه الله عليها, مكلفا بإعمار الأرض. والله سبحانه وتعالي, كرم الإنسان, علي كافة المخلوقات, بنعمة العقل, وهو مصدر التعبير عن رأيه وأحاسيسه, وحريته الكاملة, ودون قيود تعطل إرادته كإنسان, وتحجر علي رأيه. الإنسان هو فرد في أمة, يجمعه مع غيره من المواطنين إطار دولة, وجدت أصلا كتجمع يربط المواطنين ببعضهم علي أساس قاعدة أخلاقية تمثل رضاهم لما هو خير لهم, ولمجتمعهم الأشمل, وتعد ضمانا لاستمرار الحياة والتقدم. والدولة ليست وجهة نظر, لكنها تجمع مؤسسي, يدار بما اصطلح علي تسميته بالسياسة, والتي استخلص علم السياسة, تعريفات لها, من حصيلة تجارب التاريخ الإنساني. وصار محور عمل علم السياسة, ان يكون المرء متمتعا باعتباره, وحقه الإنساني كاملا غير منقوص. هذه البديهيات عن الدولة, والحكم, والسياسة, قد توقع القيادة السياسية في أخطاء كبري, لو أنها تجاهلتها سواء عن عمد, أو عن عدم وعي, لأن العمل السياسي له قواعد وأصول, وليس اجتهادا مزاجيا. فمن ناحية تحتاج القيادة السياسية, للقراءة الواعية للتاريخ, ومراعاة اختلاف الزمن, لأن لكل مرحلة زمنية قواعد التعامل معها. ويلزمها فهم أي تطور للمزاج النفسي للمواطن والإحاطة بالملامح التاريخية الراسخة والثابتة للشخصية القومية للمصريين. ومن ناحية أخري. يحتاج من يدير شئون الدولة, ان يضع في اعتباره عنصر الزمن, من حيث استيعاب التحولات التي تحدث في بنية النظام الدولي, لأن أي دولة ليست جزيرة منعزلة, عن المحيط الدولي, التي هي جزء منه تتأثر به وتؤثر فيه. وفي زماننا هذا, تختلف طبيعة النظام الدولي, نتيجة وفورات عصر ثورة المعلومات, عما كانت عليه في عصر الثورة الصناعية التي اختتم زمانها عام1989, الآن نحن نعيش عصرا يقوم علي المعرفة, وإطلاق الخيال, وانتاج الأفكار, وكل ذلك رهن إعمال العقل, وتحريره من أي قيود, وإطلاق سراحه, وليس إخضاعه لتعاليم مركزية, تحجر علي العقل الإنساني, ودوره الطبيعي في الحياة, وهو عصر تقاس قدرات الإنسان فيه, بمدي امتلاكه ناصية المعرفة, وإثبات ذاته, في زمن قاعدته الآن التنافس علي الإبداع والتفوق, حتي فيما بين الدول وبعضها. وفي هذا العصر, صارت الشعوب متصلة ببعضها ساعة بساعة, عن طريق وسائل الاتصال الحديثة, وأقربها الي المواطن, شاشات التليفزيون, التي تخاطبه وهو جالس في بيته, يتابع فيضا دافقا من الأفكار والتجارب, مما يحفز عقله علي التأمل, والتفكير والاختيار. واذا انعزلت القيادة السياسية عن طبيعة هذا العصر, فإنها تعزل نفسها بالضرورة عن الروح المجتمعية, حتي وان تصوره عكس ذلك, فتجد نفسها ممثلة لنظام متجمد يدور حول نفسه, ولايخطو الي الأمام. واذا فرض النظام علي مواطنين لهم خصائص تاريخية ممتدة لآلاف السنين, أنماطا من ابتداعه, للتفكير والسلوك, مستندا الي قوة الدولة في فرض ثقافته قسرا, فهو بذلك يدفع المجتمع الي حالة من الكبت النفسي, الذي يمكن ان تنساب من تحت غطائه, سلوكيات منفلتة وفوضوية. واليوم لم يعد في مقدور أي فريق سياسا, ان يشكل المجتمع المتنوع, علي نمط تفكيره متجاهلا خصائص شخصيته التاريخية, فهو كمن يحرث في البحر, ويلقي نفسه في النهاية, غارقا في بحر لايعرف كيف يسبح فيه, وسط دوامات هو من كان قد صنعها.. ان مجتمعنا قد عاني من الكبت النفسي والسياسي لعشرات السنين, وهو يعيش نظاما, يرسم له صورة لواقعه فوق لافتات كبري تحدثه عن الحرية, والديمقراطية, وأولوية الاهتمام بالفقراء ومحدودي الدخل, والارتقاء بالتعليم, والصحة, والاسكان, وتوظيف الشباب, بينما حياته قابعة خلف هذه اللافتات, ملأي بصور الانهيار, والتدني, والخداع في كل من يصوره له النظام وهما, علي انه يعيش أزهي عصوره. ولاتزال مصر تعاني سوءات النظام حتي من بعد سقوطه, حين رأينا في لحظة كسر غطاء الكبت النفسي في25 يناير, كيف انطلق كثيرون في صراخ زاعق, وليست في حوار عقلاني, وبدت هناك مجموعات متعددة تتكلم وتتصرف كأنها دولة في حد ذاتها, أو هي الدولة دون شريك. مصر عرفت نظام الدولة من قبل ان تعرفه مختلف المجتمعات الانسانية في العالم. لكن يبدو ان هناك من لايعرف, أو من لايريد ان يعرف! المزيد من مقالات عاطف الغمري