مصر تحتاج, بالتوازي مع الاعداد لدستور جديد وانتخابات رئاسية وبرلمانية, إلي تحرير العقل الإنساني, من عملية سطو منظمة ظل مستهدفا بها سنوات طويلة, استكمالا لعملية السطو علي الدولة, فإن بناء الدولة, وفق استراتيجية حقيقية, يبدأ بتشخيص حالة البلد. وكان ذلك يجري بتفتشي موجات من ترديد مزمن لمسميات, لأوضاع وكيانات, وسلوكيات, وممارسات, لاعلاقة حقيقية لها بمضمون ومحتوي هذه المسميات, وكان نشر هذا الزيف لمعاني الكلمات, هو ترويج لثقافة يراد لها أن تصير مستساغة ومقنعة, هذه الازدواجية للمعني اللفظي وللحقيقة الفعلية هي بث مباشر للتشويش علي حرية إعمال العقل, ودفعه, قسرا, إلي صياغة أفكاره وعلاقاته وفق الزيف الموجه وتعطيل التوافق العام حول هدف مجتمعي, يتقدم بالدولة ويحمي المجتمع من التشرذم الفردي والفئوي والطائفي. كان ما يجري شيئا أشبه بالدراما الإغريقية, التي لاتقدم الواقع للناس, لكنها تقوم بمحاكاة الواقع, في قالب يضفي عليه المؤلف من خياله. وظلت اللغة اليومية لخطاب النظام السابق إلي المصريين, تلتزم باللفظ, دون المضمون الذي بقي مجرد لافتة, لكن ما وراءها شيء آخر. النماذج لاتعد ولاتحصي, منها علي سبيل المثال: 1 الحزب الحاكم يرفق باسمه صفة الديمقراطية, والنظام يصف أداءه بالديمقراطية ويتباهي أحيانا بالقول إنها في أزهي عصورها(!), بينما الدولة تدار بحكم استبدادي مطلق, قبضت فيه يد الرئيس علي جميع السلطات, ومؤسسات يتصدرها مجلس الشعب, الذي يأتي يالتزوير, وقهر الإرادة الحرة للناخبين ولاتكفي آلة التشويش علي العقل, بتكرار القول إنها الديمقراطية. 2 نظام يكابر في تكرار محل بأن التعليم مجاني, والعلاج مجاني وحق للجميع, بينما التعليم في تراجع وتخلف, وأهالي التلاميذ الذين استعصي عليهم التعليم في المدارس, يضطرون لدفع فاتورة باهظة لتحصلوا عليه في مراكز الدروس الخصوصية, ثم ان مايجري في الكثير من المستشفيات الحكومية, أبلغ دليل علي زيف لافتة العلاج المجاني. 3 التفاخر الكاذب بمعدل مرتفع شكلا للتنمية, في حين أنه معدل رقمي أصم, لأن الدليل علي ان هناك تنمية, تشهد عليه عدالة توزيع ناتجها, بين فئات الشعب, بصورة متوازنة. 4 ويتحدثون عن حماية الدستور الذي ينتهك جهارا نهارا علي يد من يفترض انه حاميه, فإلي أي سند دستوري يقول الرئيس السابق إن ابني يساعدني في تسيير شئون الدولة؟!! ثم يتواصل التمادي في انتهاك الدستور بعد ان نقل قبل عشر سنوات إلي ابنة إدارة شئون الدولة, وليفعل بها ما فعله, وهو الذي ليست له أي صفه دستورية تخوله تقلد هذا الدور. ما أشد حاجتنا إلي رد الاعتبار للكلمة المنطوقة والمعلنة, لتكون اسما علي مسمي وليس تزييفا للمعاني, وتلاعبا بالعقول, وهي أمور تحتاج إلي ان تكون تحت نظر من سيعهد إليهم وضع الدستور المقبل, وهل يكون مفيدا اكثر ان يتحقق ذلك عن طريق بيان يكون هاديا ومرشدا لواضعي الدستور؟ في حالة ما اذا كان من الأوفق أن يقتصر الدستور علي عدد محدود من القضايا المتعلقة بالحقوق والحريات الأساسية, وعلاقة الحاكم بالمحكومين, وضمانات تقييد سلطته, وترك الكثير من القضايا للقوانين العادية. ان التخلص من بقايا عملية السطو علي العقل الإنساني, يحتاج إلي الكثير من خطوات تحصين الحياة السياسية في مصر, وهي متعددة ويمكن ان يكون من بينها: أولا: الحاجة الماسة إلي تعزيز استقلالية التفكير, فالمجتمعات تتقدم بإطلاق سراج عقول أبنائها, ليبدعوا ويبتكروا, ويصنعوا تقدم وعظمة بلادهم. ثانيا: تعريف واضح للثوابت التي لاخروج عليها في تحديد هوية الدولة, ومرجعياتها. ثالثا: الاهتمام الواجب بمفهوم الأمن الإنساني والذي جري في السنوات الأخيرة تقنينه في مواثيق دولية, وفي أفكار المهتمين بالفكر السياسي المعاصر وحقوق الإنسان في العالم, كمبدأ له خصوصيته. رابعا: ضمانات مقررة بقوة تحول دون انفراد المسئول التنفيذي بالقرار, في عصر صارت فيه المشكلات أشد تعقيدا, ومثقلة بندرة متزايدة في الموارد, وزيادة وتعدد مصادر التهديد للوطن القومي, منها ماهو قادم من الخارج, ومنها ما هو كامن داخل الوطن, وهو مايعني ان القرار صار يحتاج إلي إطلاق الخيال من المسئول, والرجوع إلي أهل الخبرة والتخصص, وفي هذا تعزيز لمفهوم دولة المؤسسات عملا وليس لفظا. خامسا: إنهاء استمرارية العمل وفق أنماط ثابتة من الدفع إلي مجلس الشعب, بمن لا يملك العلم الذي يجعل لديه الإحاطة بالشأن العام أو من يفتقد أهلية التشريع, ويجب ان تتغير مقايس السماح بمن يحق له ان يترشح. باشتراط حد أدني من التعليم, أو علي الأقل الخبرة العملية للفلاح الحقيقي مثلا صاحب الخبرة الميدانية والتاريخية بالزراعة. سادسا: لم تعد الحدود التقليدية تفصل الدول عن بعضها, بل انزاحت هذه الحدود بفعل ثورة المعلومات, ولم تعد السياسات ونظرياتها بمسمياتها القديمة, صالحة لزمن, طرأت فيه تغييرات هائلة علي النظريات السياسية والاقتصادية التي كان مسلما بها لعشرات السنين, وكثير منها سقط, أوصدئت قدراته علي الفعل, لتحل محلها أفكار واقعية منتجة حديثا تستجيب للتحولات الجارية في العالم, وللتطورات في المزاج النفسي للمواطن, وهذه أمور تفرض قيودا علي من يعهد اليهم تنفيذ السياسات, ومراعاة أن تكون لديهم المعرفة بما يجري في العالم, ومايدور داخل بلدهم, ما ظهر, وماخفي تحت السطح. وبصفة عامة من المهم للغاية ان يكون الدستور الجديد, معبرا عن عصر لم يعد كسابقه, وعن مجتمع اختلف عما كان, ولاتقل أهمية عن ذلك, خطوة تحرير العقل الإنساني من السطو الذي استهدفه طويلا, في عملية تشويش علي قدرته علي التفكير, والاختيار, والتأثير الحر علي مصير وطنه. قد يأتي إطار مبادئ الدستور متسعا مستوعبا ذلك كله, وقد يستقر الرأي علي ان يكون إطار مبادئه محدودا, عندئذ قد يكون من الأهمية بمكان ان يتوازي معه إعلان مبادئ ملزم, تدرج فيه كل هذه الضمانات. المزيد من مقالات عاطف الغمري