التنوع الذي خلق الله الإنسان عليه, كان لحكمة ابتغاهاالله سبحانه وتعالي, وأي تدخل بشري يعترض هذا التنوع, أو يحجر عليه, لابد وأن يحدث خللا في أوضاع المجتمع والدولة. والله سبحانه, خلق الإنسان عاقلا غير متشابه, تتعدد طرق تفكيره, وتصوره للأشياء, وقدرته علي الفعل, وردود أفعاله, ومن هذا التنوع يكمل الإنسان بعضه, وتتقدم الحياة, وهذه هي سنة الحياة منذ وجد الإنسان علي الأرض. ولنا أن نلاحظ أن الأنظمة التي صادرت علي هذا التنوع تحت أي مسمي أو ذريعة لكي تحكم قبضة مجموعة بعينها علي الدولة, دون غيرها, فهي تقيم نظاما, سرعان ما تدب فيه الشيخوخة, وينهش في جسده التآكل. ومنذ اختار الإنسان صيغة الدولة, تجمعا يربط الناس ببعضهم, علي أساس قاعدة أخلاقية تمثل تراضيهم علي ما هو خير لهم ولمجتمعهم, وضمانا لاستمرار الحياة والتقدم, كانت السياسة مرتبطة بالأخلاق, لأن مفهومها الأساسي هو الصالح العام, والخير الجماعي, وحتي لو حدث فصل في فترات زمنية بين السياسة والأخلاق, ففي هذا انحراف بالدولة إلي دروب ومسالك تنتهك وتمتهن الحق الإنساني للشعوب في وطن آمن, يرعي مصالحهم ويصون كرامتهم, وهم في هذا, أمناء علي مباديء وتراث ميكيافيلي, الذي وصف السياسة بأنها مجردة من جميع الاعتبارات الأخلاقية. والحياة ذاتها في هذا المجتمع هي تحقيق الوجود, وسعي كل إنسان لتحقيق ذاته بما يتيحه له مهاراته وقدراته, وفي هذا السعي, فإن الفرد يتحرك تلقائيا بفعل الغريزة, فيلاقي بالتبعية, فردا آخر يتحرك بدوره بنفس التلقائية, وتتواجه حركة هذا مع ذاك, فتتكامل أو تختلف, ويخرج من وسط التفاعل الإنساني, من يشكل لذاته قوة تأثير أخري, تتآلف أو تختلف, وإذا حدث ذلك فإنه يزيد من قوة وجود كل منهما, دون صخب أو عنف إذا كان كل منهما مؤمنا بحق الآخر في الوجود. تلك المجابهة هي حركة مستمرة لحظة بلحظة, مادام للإنسان وجود. وأي مجتمع إنساني معرض لخصوم وأعداء من خارجه, لكن ما يحميه ويصدهم عنه, هو تكاتف وتآلف القوي في الداخل علي اختلافها. أما إذا كسرت أسس وقواعد علاقات القوي المتنوعة داخل المجتمع الإنساني الواحد, فأنت بذلك تتيح لهؤلاء الخصوم أو الأعداء, فرصة أقتحام حصنك, والانفراد بك حتي, ولو كنت وراء أسوار قلعتك المتخيلة. والدول بطبعها تعيش في منافسة مستمرة مع بعضها, وتبقي قدرات أي منها علي البقاء رهن التوافق الوطني, وما دام أي فريق في الدولة, قد ارتضي دخول معترك العمل السياسي, فعليه أن يكون مستعدا لقبول الحل التوافقي في مجتمعه, وحتي لو لم يأت الانكسار علي يد خصم من وراء الحدود, فأنت من تسبب في حدوثه في الداخل, مادام البناء مشيدا علي غير أصل الوجود لأي مجتمع إنساني, بل هو بناء مصطنع. إن أي نظام يدير دولة هو جزء من عالم متصل ببعضه, وليس منعزلا بذاته عن الآخرين بعد أن انزاحت الفواصل بين الحدود التقليدية للدول, وصارت الشعوب تطل علي بعضها, وكأنها تنظر من نافذة قريبة, وفي عالم اليوم لا يستطيع أي نظام حكم أن يمنع شعبه من رؤية ما يدور في العالم من تحولات وتغييرات, خاصة أن فلسفة عصر المعلومات وقاعدة عمله, هي التغيير.. والتغيير ليس عملية تدور خارج الحدود فقط, بل تجري أيضا في الداخل, وحتي لو أقنع أي نظام نفسه, بأنه باسط يده علي أمور الدولة وعيونه ترصد أقل التحركات فيها, فهو واهم, بل إنه يكون غافلا عن طبيعة الشخصية القومية للمصريين, فهم اعتادوا تاريخيا أن يلجأو إلي إدارة أمورهم تحت السطح, وفي هدوء تام غير منظور للدولة, وكان ذلك يحدث في الفترات الزمنية التي يدرك فيها الشعب أن النظام الذي يحكمه, يعلي من شأن مصالحه الخاصة, علي حساب المصلحة العامة والخير المجتمعي. إن أي نظام إنما يحكم بشرا متنوعين ومزاجهم النفسي والسياسي, عرضة بالضرورة للتغير, وأن أفكارهم ومطالبهم ليست قوالب جامدة, يستطيع أن يضمن بقاءها علي حالها الذي يتصوره ثابتا, لأن العقل الإنساني, كما خلقه الله, يفكر, ويتدبر, ويختار. هذه هي دائرة عمل السياسة, وقواعد إدارتها, وعلي أساسها تتقدم الأمم, وتنهض الشعوب, أما من يتعالي علي هذه القواعد, فهو يباشر شيئا لا صلة له بالسياسة, ويدير نشاطا في كيان ليس هو الدولة, بمفهومها المعروف والمستقر والمتفق عليه. إن الدنيا عبارة عن جماعات من البشر, فضلهم الله علي بقية خلقه, بقيمة العقل, ومن ثم فإن إعمال العقل هو وسيلة تقدم الحياة علي الأرض أما من يسلك طريقا مغايرا, معترضا طريق الطبيعة الإنسانية, وينكر علي الإنسان أن يفكر ويتصرف ويختار حسب الخصائص التي خصه بها الله سبحانه, فهو قد حبس تفكيره في كهف أغلق عليه, غير قادر علي أن يتعامل مع الحياة الإنسانية, أو التفاعل معها. المزيد من مقالات عاطف الغمري