نحن رجال الدين يمكن أن نكون من أفضل أدوات الدعم والترسيخ لثقافة حقوق الإنسان وأيضًا- أحيانًا- يمكن أن نكون من أقوي معاول الهدم والإهدار لهذه الحقوق بغض النظر عن حسن النية من عدمه وحتي نكون دائمًا في الاختيار الأول «أدوات دعم» أري أن هذا يمكن أن يتحقق في بعدين: أولاً: أسلوب تفكير رجل الدين: أري بعض الأمور التي من المهم أن يعيها رجل الدين ويمتلئ بها اقتناعًا وإدراكًا فيسهل عليه بعدئذ أن يحياها. أولا: إدراك أن للدين في بلادنا موقع الصدارة في نفوس الشعب ومن هذا فهو مؤهل ليكون سلاحا ذا حدين وعلي رجل الدين أن يلزم نفسه بصرامة لا مساومة فيها بالتروي والتأني والدراسة الوافية والإدراك الواعي لمتغيرات المجتمع قبل أن يقدم أي رأي ديني في القضايا المطروحة. ثانيا: يدرك رجل الدين أن دوره ليس مغازلة الاتجاهات السائدة المتوارثة للجمهور تحقيقًا لشعبية أو تجنبًا لمواجهة تصحيحية بل عليه قبول السير في الطريق الصعب الطويل نحو غربلة الموروث الذي ليس بالضرورة كله صواباً. ثالثا: يدرك رجل الدين أنه ليس مالكًا للحقيقة المطلقة ومحتكرًا لها.. ببساطة لأن الحق المطلق هو الله وحده. رابعا: علي رجل الدين أن يضع دائمًا الدين في إطاره ودوره الصحيح في المجتمع كموجه أخلاقي وروحي وليس استخدامه لإضفاء قدسية خاصة علي قضايا سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية والتي بطبيعتها خلافية تتباين فيها وجهات النظر. خامسًا: عدم استسلام رجل الدين لإغراء عملية تفسير النصوص الدينية بغرض تحويلها من نصوص إلي «أحكام» شخصية مطلقة علي أمور دنيوية نسبية والأحري به قيادة وتوجيه الشعوب والحكام معًا إلي الالتزام بالدساتير التي ارتضونها لكي يصلوا معًا من خلالها إلي قواعد تتعامل مع أمور حياتهم اليومية علي امتداد تنوعها وإلا سيكون- رغم كل حسن النية- من المشاركين في تمهيد الطريق إلي الدولة الدينية. سادسًا: إدراك أن التعددية هي إحدي عطايا وهبات الله سبحانه وتعالي. سابعًا: علي رجل الدين أن يدرك أن مجرد وجود النصوص الدينية المقدسة والتي بالطبع تؤكد حقوق الإنسان وتدعمها ليس معناه بالضرورة أن البشر الذين يؤمنون بهذه النصوص يتمتعون بحقوق الإنسان فكم من المجتمعات تبدي التزامها بهذه النصوص تهدر فيها حقوق الإنسان، وهنا يبرز الاحتياج إلي خطاب ديني يربط النص بالحياة. - وهذا يقودني للحديث في البعد الثاني. الخطاب الديني لرجل الدين - الخطاب الديني هو الخطاب الذي يكون الدين مركزه وحتي في تناوله لقضايا سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها من القضايا فهو يستند إلي النص الديني كمرجعية. - ولقد زادت سيطرة هذا الخطاب علي كل مناحي الحياة وامتد انتشارًا وتشعبًا وتأثيرًا حيث إن قنوات توصيله لم تعد مقصورة علي المساجد والكنائس بل اتسعت وامتدت من خلال الإذاعة والتليفزيون بقنواته الأرضية والفضائية وشبكة الإنترنت العنكبوتية وشتي وسائل الإعلام الأخري، كل هذا جعل من التوقف أمامه بالملاحظة والرصد والتأمل والتحليل أمرًا ضروريا نحو دور فعال ومؤثر لرجل الدين في تدعيم ونشر ثقافة حقوق الإنسان. - ومن وجهة نظر رجل دين مسيحي أري أن إدراك ومراعاة بعض المبادئ المهمة يمكن أن يبلور خطابا دينيا، يدعم حقوق الإنسان ويرسخ ثقافتها. أولاً: لابد من فهم صحيح وتعامل صحيح مع النص الكتابي المقدس فنحن نري أن روح الله يوحي بالفكر وأن الكاتب البشري يكتب بلغته وأسلوبه وفق معارفه وحصيلة مفرداته اللغوية، فليس لله لغة واحدة، لذا جاءت لغة الكتاب المقدس بأسلوب وحضارة عصرها واستمرارية الوحي من الماضي للحاضر والمستقبل يرتبط بالمعني والمضمون، وإلا ما كان هو الله الذي خلق العالم كله ويحكم البشرية كلها إذا كان يخاطب فقط بلغة معينة لحضارة معينة دون غيرها. ثانيا: نري أن الإيمان المسيحي ليس مجموعة من شرائع ونواة وليس مجموعة نظم وفرائض، المسيحية هي شخص المسيح والإيمان بالمسيحية هو الإيمان بالمسيح كما يعلنه الكتاب المقدس والفرائض والنظم تتنوع في استخدامها وممارستها من مجتمع إلي مجتمع ومن حضارة إلي حضارة. ثالثا: نري أن الإنجيل هو دعوة لتحرير الخليقة كلها. رابعًا: لا نقدر أن نفصل الحضارة عن المجتمع فالحضارة هي ذاتية المجتمع وهي التي تميز بين مجتمع وآخر وتقسم العالم إلي دول وشعوب وجماعات، وليست هناك حضارة مقدسة في ذاتها فتقديس الحضارة يجمدها ويسلبها إمكانيات التقدم وتديين الممارسات الحضارية يضر الدين والمجتمع وبالحريات الإنسانية. خامسًا: الإنجيل يدعو للتفاعل والاندماج دون فقدان الهوية الذاتية، فقد نشأت المسيحية علي أرض اليهود ومنذ البداية رفضت الارتباط بحضارة مجتمعات اليهود فقط وعندما دخلت إلي مجتمعات الأمم الأخري غير اليهودية اندمجت مع حضاراتها فلا يوجد اليوم ما يعرف بحضارة مسيحية لكن يوجد حضارة مجتمعات تأثرت بالقيم المسيحية ومع يقيني أن للاندماج مخاطره أري أن للاعتزال مخاطر فالجماعة المعتزلة تسير في رحلة تبدأ بالنظر للآخرين بعين الشك وتنتهي بتكفيرهم أما الاندماج فهو لايتطلب الاتفاق في العقائد والأفكار لكنه ينطلق من احترام الآخر وبالتالي عدم الإساءة إليه أو إلي فكره والحماية من الذوبان وفقدان الهوية يأتي من خلال الترقية وبناء الفكر وترسيخ ثقافة التنوع والتعددية والتعاون وليس من التصلب والتحجر والتعصب. سادسًا: يعلن الكتاب المقدس القصد الإلهي من أجل البشر والذي يمكن أن نلخصه في الكلمات الثلاث الكرامة، المساواة، المسئولية. - في النهاية أعود لكي أؤكد إيماني العميق أن رجال الدين قد اختارهم الله وأفرزهم لكي يكونوا أدواته الطيعة لنشر البهجة والسعادة في ربوع الكون ولمعاونة وتشجيع كل إنسان لكي يكون له حياة أفضل متمتعًا فيها بكل حقوقه وذلك من خلال أدائهم المخلص والأمين لرسالتهم فهم في الأساس أصحاب رسالة وما يفعلونه ويقولونه هو إتمام لهذه الرسالة وليس مجرد أداء لواجبات وظيفية. القس- محسن منير رزق الله أمين عام مدارس سنودس النيل الإنجيلي