لما أمر الله عز وجل إبليس اللعين بالسجود لآدم عليه السلام،كان رد فعله:[قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ](الأعراف 12)فقابل اللعينُ أمر الحكيم العليم الخبير وقضائه وقدره وإختياره وتدبيره بالقياس العقلي الفاسد،فانتقل من مقام العبودية التي هي إستسلام تام للسيد والمالك إلي مقام المناظرة والمُجادلة والإقتراح علي من:[لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ](الأنبياء 23) [وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ] (الرعد41)[وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ](يونس31)،فأصبح عبدا آبقا،والعبد الآبق لا ثمن له ولا سعر ولا قيمة في سوق العبيد. والله لم يأت بشيء عبثا في كتابه الحكيم ،ولم يقتصر القرآن علي إيراد أشياء بعينها إلا لأنها شاملة جامعة حاكمة لكل ما يأتي ويجد من تفاصيل وأحداث إلي يوم الدين، كما أن فيها العبرة والعظة والتحذير ولفت الأنظار إلي يوم الحساب. أراد المولي عز وجل من إيراد قصة اللعين مع السجود لآدم أن يقول لنا: إن كل من قابل قضاء لي وقدرا مني وإختيارا وتدبيرا وأمرا ونهيا لي بالرفض أوالتشكيك أوالتأخير أوالتسويف فهو شاء أم أبي يسير علي النهج الإبليسي. ولا شك أن أغلي وأعز أمنية لكل مسلم أن يرضي عنه ربه ليدخل في قوله تعالي:[رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ](البينة8)ولكننا نسي أولا نعمل من أجل [وَرَضُوا عَنْهُ](البينة8). فكيف نرضي عن ربنا،وهل المولي سبحانه وتعالي يحتاج لذلك أويُفيده ذلك؟ الرضي عن ربنا يكون بالإستسلام والرضي بما قضاه وقدره (خيرا أم شرا)وبما إختاره ودبره وبما أمر به ونهي عنه،وكل ذلك لو فعله كل البشر من لدن آدم حتي قيام الساعة لن يَزيد في ملك الله عز وجل شيئا،كما أنهم لو فعلوا العكس لن يُنقص ذلك من ملكه شيئا. وكل إنسان كما قال ربنا عليم بنفسه خبير [بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ](القيامة14-15)فلنَصدُق مع أنفسنا ونتساءل، ماذا قلتُ في نفسي وفي طوايا ودفائن قلبي وصدري لمَّا كتب اللهُ عليَّ الفقر أوالمرض أوالضيق أوالعنت مع الجيران أوالأقارب أوالوظيفة أومع غدر الأصدقاء والأصحاب أومع نكد الزوجة التي قد تجعل هدف حياتها الأسمي كيف تلهث وراء ما يغيظُك ويُعكر عليك صفو حياتك وحياة أولادك، ولم تعد تري وتسمع في الحياة إلا صوت أنانيتها وجشعها وتقليدها الأعمي للآخرين، وغير ذلك مما يصيب المرء بالهم والحزن والغم. أسئلةٌ عظيمةٌ وخطيرةٌ لن يجيب عنها غير صاحبها، وعليها يدور حسنُ الظن بالله وهونجاة في الدنيا والآخرة، أو سوء الظن بالله وهو هلاك في الدنيا والآخرة.ولنترك الأسئلة تتري ولنتحري إجابة الصدق في تلك القضية الشائكة التي طرحها الإمام القيم ابن القيم الجوزيه. ولنتذكر ولنتدبرقبل ذلك أن خير البشر بل خير الخلق صلي الله عليه وسلم هو أشد الناس بلاء،فلم يكن قبله ولا بعده إنسان تعرض لمثل ما تعرض، ومع ذلك لم يَرد عنه مُطلقا أنه تَشكي أوإعترض أو إقترح علي ربه شيئا خلاف ما قدره الله، ولم يقل لربه في نفسه كان ينبغي كذا أوكذا، ولم يَعتب أو يَلوم مع علمه أن الله عز وجل قادر علي إصلاح أو إهلاك كل خصومه في طرفة عين. ومع ذلك كلما زاد البلاء عليه صلي الله عليه وسلم زاد الإيمان عنده. يقول ابن القيم:[فأكثر الخلق،بل كُلُهم إلا مَن شاء الله يظنون باللهِ غيرَ الحقِّ ظنَّ السَّوْءِ، فإن غالبَ بنى آدم يعتقد أنه مبخوسُ الحق، ناقصُ الحظ، وأنه يستحقُ فوقَ ما أعطاهُ اللهُ، ولِسان حاله يقول: ظلمني ربِّى، ومنعني ما أستحقُه! ونفسُه تشهدُ عليه بذلك، وهو بلسانه يُنكره ولا يتجاسرُ على التصريح به، ومَن فتَّش نفسَه، وتغلغل في معرفة دفائِنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامِناً كُمونَ النار في الزِّناد، فاقدح زنادَ مَن شئت يُنبئك شَرَارُه عما في زِناده،ولوفتَّشت مَن فتشته،لرأيت عنده تعتُّباً على القدر وملامة له،واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به،وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا،فمستقِلٌ ومستكثِر،وفَتِّشْ نفسَك هل أنت سالم مِن ذلك؟فَإنْ تَنجُ مِنْهَا تنج مِنْ ذِي عَظِيمَةٍ وَإلاَّ فَإنِّي لاَ إخَالُكَ(أظنك) نَاجِيَاً .فليعتنِ اللبيبُ الناصحُ لنفسه بهذا الموضعِ، وليتُبْ إلى الله تعالى وليستغفِرْه كلَّ وقت من ظنه بربه ظن السَّوْءِ، وليظنَّ السَّوْءَ بنفسه التي هي مأوى كل سوء، ومنبعُ كل شر،المركَّبة على الجهل والظلم، فهي أولى بظن السَّوْءِ من أحكم الحاكمين،وأعدلِ العادلين،وأرحمِ الراحمين،الغنىِّ الحميد،الذي له الغنى التام، والحمدُ التام، والحكمةُ التامة، المنزّهُ عن كل سوءٍ في ذاته وصفاتِهِ،وأفعالِه وأسمائه،فذاتُه لها الكمالُ المطلقُ مِن كل وجه،وصفاتُه كذلك،وأفعالُه كذلك،كُلُّها حِكمة ومصلحة،ورحمة وعدل، وأسماؤه كُلُّها حُسْنَى]. [email protected] لمزيد من مقالات عبدالفتاح البطة;