يتجدد الحديث عن الخطاب الدينى فى أعقاب كل حادث إرهابي، وآخرها حادث الواحات البشع، ويتجه البعض أحيانا بشيء من التبسيط المخل إلى اتهام المؤسسات الدينية برفض تجديد الخطاب الدينى أو التقاعس عن رسالتها فى هذا الشأن، بل وقد يذهب إلى تحميلها مسئولية الأحداث الإرهابية، وندخل فى مساجلات مستنسخة لا نهاية لها. يعبر هذا النهج عن خطابات إعلامية معلبة سريعة، الهدف منها التخلى عن المسئولية الأساسية وهى النظرة إلى الحياة التى نعيشها، ما آلت إليه، وما نريد تحقيقه. المسألة ليست شكلية، بقدر ما هى تتصل بجوهر النظرة إلى الذات، تلك النظرة التى تشوهت كثيرا. لا أحد يجادل فى أهمية تجديد الخطاب الديني، وكثير من الاشتباك فى المجال العام، خاصة الإعلام، يدور حول آراء تطرح فى الساحة تقدم على أنها دينية فى حين انها تجافى المنطق والذوق العام وخبرة العيش المشترك بين المصريين، وهناك أفكار مغلوطة، وصور نمطية خاطئة، وثقافة سلبية تعشش فى أذهان قطاعات من المجتمع يتصورون أنها الدين، فى حين أن الفكر الدينى المستنير بعيد عنها كل البعد، وأظن أن هناك من يشعر بالخجل والحزن عندما يرى مساجلات حول آراء لا انسانية يطرحها البعض بوصفها تعبيرا عن دين، بينما يسعى البعض الآخر إلى الانتصار للدين نفسه برفض وفضح هذه الآراء التى لا تمت للدين بصلة. وبالرغم من كل ذلك فإن عدم تجديد الخطاب الدينى بالوتيرة التى يتوقعها البعض يعود فى رأيى إلى عوامل أكثر تعقيدا، التحدى الحقيقى هو عدم الاتفاق على تعريف محدد لما يمكن أن نسميه «تجديد الخطاب الديني» الظاهر أن الذين يتشابكون حول المصطلح لهم تعريفات متباينة له. فريق يراه وهم قطاع من المثقفين- عملية علمنة بدرجة ما، تنطوى على تنحية كلية أو جزئية للدين من المجال العام، فى حين أن جمهرة المتدينين، وهو رأى المؤسسات الدينية، أن تجديد الخطاب الدينى لا ينطوى على مساس بالثوابت، بل هو عملية اجتهاد زمنى لمواجهة الأفكار والآراء والفتاوى التى لم تعد ملائمة للعصر. عدم الاتفاق على تحديد مفهوم الخطاب الدينى يؤدى إلى اشتباك دائم، تماما مثلما سار جدل فى وقت من الأوقات حول مفهوم «الدولة المدنية». هناك من اتخذ المفهوم مرادفا للعلمانية، وآخرون رأوا فيه خطرا، واتجهوا إلى استخدام المصطلح بوصفه تعبيرا عن حكم لا يعرف الكهنوت الديني، بل هو مدنى يلتزم بالثوابت الكلية للدين. الإشكالية إذن أن المختلفين يتحدثون لغتين وليس لغة واحدة، وهو ما دعا أحد المفكرين الأمريكيين المعاصرين «أوس جنيس» إلى الحديث عن أهمية أن يلتقى العلمانيون والمتدينون حول أجندة واحدة، تحقق المدنية والقيم فى آن واحد. وهى مسألة صعبة، يبدو أن المنشغلين بالقضية لا يريدون أن يخوضوا فيها. من هنا فإن تطوير الخطاب الدينى ليس عملية محاضرات أو ندوات، بقدر ما هى ممارسة تعليمية مستمرة، نقدية، وتفاعلية، تثير نقاشا وجدلا، وتسمح بإعمال العقل والخروج من أسر الأفكار القديمة، ونقد الموروث، وتقديم الدين بوصفه طاقة تغيير وتحرر للإنسان الذى تحاصره أمراض المجتمع المعاصر من مادية، وانحلال اخلاقي، وتراجع فى نوعية الحياة. البداية تكون بالعلم من خلال دراسة الدين ملازما لعلم الاجتماع، وتقديم باحثين للمجتمع لديهم النظرة الإنسانية الرحبة، والقدرة على مواكبة التقدم بخطاب دينى مستنير، يطرحون رؤى جديدة لمساعدة الفرد الذى تحاصره التحديات على الخروج من التهميش، بالمعنى الثقافى والاقتصادى والاجتماعي، وتطوير نظرة ايجابية خالية من التشاؤم للحياة، بحيث يكون النص الدينى قريبًا من الناس، وثيق الصلة بمعاناتهم اليومية، ويشكل مصدرا لاستلهام التغيير الحقيقي. سئمنا الحديث عن تجديد الخطاب الديني، الذى تحول على ما يبدو إلى وظيفة أكثر من كونه ممارسة تعليمية دائمة تقوم بها المجتمعات التى تبحث عن استنارة الذهن، ورفع الوعي، وتطوير نوعية الحياة. نحن لا نريد تطوير الخطاب الدينى لأننا نواجه التطرف والإرهاب، ولكن لأننا نريد أن نعيش حياة أكثر رفاهية وسعادة، لا تعرف انغلاق الذهن، والممارسات اللا انسانية، والفكر الظلامى الذى يشوه نفسية الناس. يبدو أن المجتمع، أو على الأقل بعض ساسته، يؤرقهم العنف والإرهاب ولا يشغلهم التطرف وسوء الأفكار. هذه هى الأزمة. هل لو اختفى الجهاديون أو الإرهابيون المسلحون، ولم يعودوا يعتدون على المجتمع سوف ننحى جانبا قضية تطوير الخطاب الدينى حتى لو ظل هناك من هم يروجون للأفكار الرجعية، ويقدمون وجها كئيبا موحشا للتدين والمتدينين؟. مجرد سؤال سوف تفتح الإجابة عنه نوافذ كثيرة من التفكير، وتضعنا أمام المسئولية الحقيقية: تجديد الخطاب الدينى من أجل حياة أفضل، بهدف حصانة المجتمعات نفسيا وثقافيا واجتماعيا، ومن أجل أن يكون الدين طاقة ولا نرفع رايات تطوير الخطاب الديني- شكليا ومرحليا- فى مواجهة الإرهاب الذى نكتوى بناره. لمزيد من مقالات د. سامح فوزى ;