دخل الحديث عن تجديد الخطاب الديني منعطفا ، يتطلب التوقف أمامه ، إذ لم يعد مقبولا ان يتم التطرق الى هذا الامر الذي يبدو من الاهمية بمكان هذه الايام اكثر من اي وقت مضى ، للبلد وللانسان بين الحين والآخر ، او ان يتحول الامر الى نوع من جلد الذات كلما دار الحديث عن التجديد المنتظر. فلا احد يتوقف ليشرح لعوام الشعب ، ماهو المقصود بتجديد الخطاب الديني ، الذي باتت المطالبة به حديث الصباح والمساء ، والكل يوجه اصابع الاتهام لمؤسسة الازهر الشريف باعتبارها المنوطة بهذا الامر ، حتى ان الرئيس عبد الفتاح السيسي خاطب فضيلة الامام الاكبر شيخ الجامع الازهر اكثر من مرة في جمع عام مطالبا الازهر بالاضطلاع بمسئوليته التاريخية في هذا الظرف العصيب. غير أن التجديد المنشود والذي يتفق على اهميته الجميع ، لاينبغي ان يكون من المستوى القمي ، او الدخول في حروب مع من يدعون انهم مجددون وهم قلة لكنهم استغلوا ابواق الاعلام الفضائي لفرض آرائهم في غفلة من الدولة والازهر على السواء ، ووجدوا مريدين ممن يرون الالتزام بتعلميات الدين تكبيلا لحريتهم ، ويشطحون بافكارهم الى حد يمكن ان يخرجهم من الملة ، وبدلا من ان يواجه هذا الامر بالفكر المستنير ، ينبري البعض شاهرا سيفه معلنا دفاعه عن الدين من خلال سب هؤلاء او التوجه الى القضاء ببلاغات لمقاضاتهم ، ما يمنحهم الشهرة التي يسعون اليها ، وتتسع من حولهم دائرة المريدين ، وليس عجبا ان احصاء يقول ان عدد الملحدين في هذه الايام ومنذ الفترة التي ظهر فيها الاسلام السياسي على السطح وتصدر المشهد السياسي في تزايد مستمر ، وحتى ان كان هذا التزايد لايمثل شيئا بالقياس بعدد السكان ، لكنه يبقى امرا مزعجا وغريبا في مجتمع متدين بطبعه. ومنذ ظهر مصطلح تجديد الخطاب الديني، والبعض يستخدمه في غير مواضعه والبعض الآخر يسابق الجميع من اجل ان يقدم نفسه مجددا ، ويتسابق الجميع الى الفضائيات (وباء هذا العصر ) التي تفتقد الى الرؤية والمسئولية في آن واحد ، ما يحول الامر الى ساحة عشوائية تتصارع فيها الثيران الهائجة التي ينقض بعضها على بعض وتكون النهاية دوما سقوط الاثنين معا ، فلا من يدعون الدفاع عن الثوابت والتراث يمتلكون من الحلم ما يمكنهم من دحض حجج الآخرين ، ولا من يدعون الثورة على الثوابت ويشككون في التراث والسلف الصالح يمتلكون من العلم ما يقنعون به الناس ، وبين هؤلاء واولئك تغيب الرؤية وتسيطر الضبابية على المشهد ويضيع الهدف الذي تسعى اليه الدولة ، في ظل اكتفاء الهيئات الرسمية المنوط بها احداث التجديد في الخطاب الديني ، بالتنديد والشجب وعقد مؤتمرات او ندوات او لقاءات مع اناس كثيرون منهم غير ذوي اختصاص وبعضهم يؤازر اصحاب الفكر الثائر على الثوابت ، والغريب انه حين فكرت المؤسسات الدينية في التصدى لمهمة التجديد ، لم تكن على قلب رجل واحد ، اذ وجدنا انقساما واضحا حتى وان تم نفيه من قبلهما ، اذ كيف نفسر تنظيم وزارة الاوقاف لمؤتمر عن التجديد لايحضره ممثلون للازهر الشريف ، وبعدها بايام ينظم الازهر لقاء موسعا من المفكرين والمثقفين حول الامر ذاته ، ومن أسف ان هذا الامر اثار العديد من علامات الاستفهام ، واكد أن الازمة تبدأ من داخل المؤسسة الدينية بكل هيئاتها ، اذ كيف يكون هناك انقسام حول المسئولية والهدف يفترض انه واحد ، ومن هنا فإن اول الطريق الى تحقيق الهدف المنشود في شأن تجديد الخطاب الديني لمواجهة التشدد والتطرف والارهاب يجب أن يكون تحت راية واحدة هي راية الازهر ، وتحت اشراف مباشر وشخصي من شيخه الامام الاكبر ، الذي يحظى بالاحترام الكبير ، وينتظر منه الكثير في هذا الامر ، لما له من مكانة ووقار وخصال حميدة تقرب ولاتباعد ، وتجمع ولاتفرق ، وهو مانحتاجه الان اكثر من اي وقت مضى ، فاختلاف الائمة رحمة ، لكن خلافهم نقمة ،وفارق هائل بين الاختلاف والخلاف ، وبعيدا عن المؤتمرات والفضائيات والضجيج الذي لايسفر عن طحن حقيقي ، يمكن القول ان التجديد المنشود يبدا من المعاهد التي تمثل المؤسسة التعلمية للازهر والممتدة في ربوع الوطن ، وتحظى باقبال كبير من قبل طبقات الشعب الفقيرة والمتوسطة وهم السواد الاعظم ، في القرى تحديدا ، وبات واضحا لكل ذي عينين ممن يتابع هذه المعاهد عن قرب او حتى عبر رصد ما ينشر عنها في الصحف ، انها بحاجة ماسة الى التجديد كاولوية قصوى تمثل البداية الحقيقية لتجديد الخطاب الديني، فهؤلاء هم دعاة المستقبل وتأسيسهم من خلال مناهج تواكب العصر وتعكس مفاهيم الاسلام السمحة، هو بداية التجديد، وهذه المعاهد التي تركت لاشخاص يديرونها بمنطق روتيني يبحث عن المظهر لاالجوهر، ويحرص على العمامة كغطاء للراس أكثر من حرصه على تنمية العقل وصقله بالفكر المستنير، فتحول الامر الى مايشبه العقاب فهجر التلاميذ المعاهد وتراجعت نتائجها حتى ان نسبة النجاح لم تصل الى خمسين بالمئة، ان اصلاح المعاهد الازهرية مما اصابها من وهن وتفضيل للواسطة على الكفاءة ، هو بداية الاصلاح والتجديد للخطاب الديني ومن دون ذلك سنكون كمن يحرث في الماء . لمزيد من مقالات أشرف محمود