وضعت التحولات التي يشهدها المجتمع المصري منذ خمس سنوات السنوات طلبا علي شكل جديد من التدين فيه تجديد، ورغبة في الانفتاح، يشتبك مع الشكل النمطي التقليدي للتدين المتعارف عليه، والذي ظل لعقود يناسب حالة مجتمع راكد. هذه بالمناسبة ليست ظاهرة جديدة، فقد بحث المجتمع، بمختلف فئاته الاجتماعية، عن تدين جديد قبل ثورة 25 يناير، وهو ما عُرف بظاهرة »الدعاة الجدد«، التي وجدت جمهورا عريضا من أبناء الطبقتين الوسطي والعليا ثم ما لبثت أن فقدت بريقها. التدين هو التزام الشخص بعقيدة معينة في سلوكه، وهو بذلك يختلف عن الدين، الذي هو في جوهره أصول ثابتة غير متغيرة. التدين ممارسة بشرية تعبر عن إدراك معين للدين، تختلف من مجتمع لآخر، ومن شخص لآخر. ويُعد تقدم المجتمع رهنا بوجود أشكال للتدين تدفعه إلي الأمام، ولا تشده إلي الخلف أو تجعله يقف محلك سر. هناك تدين موروث له ملامح عدة، لا تناسب متطلبات الفكر المتجدد أو تدفع إلي التقدم. أولا: التركيز علي العقائد، وسط إحساس مفرط بالخوف عليها. وطور بعض الإسلاميين في أدبياتهم مفهوم الدولة »الحارسة للدين«، ويقوم الخطاب السلفي علي مفهوم تنقية العقائد من البدع، وطرح بعض المسيحيين مصطلح »تثبيت العقيدة«. وهكذا بدا أن العقيدة تحيط بها مخاطر، مما استدعي أن تظهر فئة يمكن أن نطلق عليها »فرسان المعبد«، الذين يتولون حراسة العقائد، والزود عنها، وبعضهم من باب الولاء للعقيدة التي يؤمن بها يدخل في مساجلات مع أصحاب العقائد الأخري، يسدد لها الطعنات بهدف إظهار سمو معتقده علي غيره. ثانيا: الاهتمام بالجانب التعبدي. الصورة التي يُقدم عليها الدين فيها عبادات، وطقوس ينبغي الالتزام الكامل بها. بالطبع لكل معتقد ديني نظامه الذي يٌلزم المؤمن به، ولكن تقديم الدين علي أنه ممارسات تعبدية فقط، يجعل خطاب التدين في المجتمع مقصورا عن تقديم المضمون الروحي والاخلاقي والسلوكي للدين. هناك حديث دائم، بما يقترب من الثرثرة، عن الدين. المجال المحيط بالشخص معبأ بخطابات دينية، لكنها لا تسهم في ارتفاع منسوب الاخلاق العامة، التي يتحدث القاصي والداني عن انخفاضها، وتردي مستواها. ثالثا: تأكيد الالتزام بالشكل أكثر من المضمون، هناك »شكل التدين« الذي ينبغي أن يكون عليه الناس في العلن، ويٌقاس التزام الشخص بمدي امتثاله لشكل التدين المتعارف عليه، في حين أن مضمون التدين غير حاضر بذات الاهتمام في الخطابات الدينية. وهو ما انتج الفجوة التي نعيش فيها بين ظاهر تغلب عليه صورة التدين، بينما تشهد الممارسات الاجتماعية ترديا اخلاقيا وسلوكيا. رابعا: التعارف بين أصحاب المعتقدات المتنوعة في أضيق الحدود، ويغلب عليه خطاب المجاملات، الذي يأخذ أحيانا شكل التكاذب المتبادل، ولا يمتد إلي خبرة الانفتاح علي التراث الثقافي والإنساني والحضاري. هذه بعض ملامح التدين التقليدي، التي تًلائم المجتمع الراكد، والتي أدت إلي عدد من المظاهر السلبية منها التعصب، والتطرف، ورفض الدين ذاته بما يٌطلق عليه المجتمع »الالحاد«، أو التدين الشكلي، الخ. المجتمع في حالة تحول، ولم يعد شكل التدين التقليدي يناسبه، وبدا أن هناك أشكالا أخري من التدين نحن بحاجة إليها. يكتسب التدين الجديد خصائص مغايرة تناسب مجتمعا متغيرا، يطرح تساؤلات جديدة، تحتاج إلي اجتهاد ديني للاجابة عليها، أبرزها أن التدين هو خبرة شخصية، محصلة تربية الفرد علي الحرية والمسئولية، والتفكير النقدي، فهي ليست تلقينا عقيديا بقدر ما هي تشكيل وجدان الإنسان علي مجموعة من القيم الدينية. هنا يكون الدين مصدرا للاخلاق والروحانية، بجانب مصادر أخري في المجتمع الحديث مثل الفن، والثقافة، والعمل التطوعي، والعلم، وغيرها. الشخص المؤمن ليس حارسا لمعتقد ديني، وليس مطالبا بالدعوة والتبليغ أو التبشير، بقدر ما هو »مرسل« لمجتمع، يريد أن يقدم له صور »المؤمن«، ليس بالخطابات العقيدية الدفاعية، وليس كذلك بأحاديث الإيمان والكفر، ولكن، وهذا هو الأهم، بتجسيد المعاني الدينية في السلوك الإنساني. في هذه الحالة يثري الانفتاح بين أصحاب العقائد المتنوعة الحوار الانساني، وخبرة التعارف العميقة. فمن غير المعقول، كما ينادي البعض، أن يشكل التنوع الديني عائقا أمام التفاعل الاجتماعي بين الناس بدعوي أن المشاركة في أو التهنئة بمناسبة دينية لشخص آخر يمثل اعترافًا بعقيدته، وهو منطق غريب لا يدرك التراث الحضاري المشترك بين الناس، ويحول المجتمع إلي كانتونات يحكمها الشعور بالارتياب. ومن ملامح التدين الجديد أيضا التوقف عن »الثرثرة« المستمرة عن الدين، والتركيز علي الاخلاق الدينية في الممارسة. الكف عن النصح والإرشاد والوعظ، وتقديم نماذج إنسانية في خدمة الناس والمجتمع، الخروج من أسر المناكفات العقيدية وتقييم الناس حسب عقائدهم إلي رؤية الحياة »متنوعة« بين بشر متنوعين في المعتقدات، والطبقة الاجتماعية، والمهن، والمصالح، لا سبيل للحياة بينهم سوي »التعارف« بمعناه العميق، وتبادل الخبرات، والاحترام المتبادل. في رأيي أن الحديث عن تطوير الخطاب الديني أو مواجهة التطرف أو ما شابه لن يؤتي بثمار إلا عندما يقدم مفهوما جديدا للتدين، فالمشكلة ليست في صياغة العبارات، أو الفهم الخاطئ لبعض النصوص، ولكن في طريقة التفكير، وأسلوب الحياة، والنظرة إلي الذات والمجتمع. لمزيد من مقالات سامح فوزي