حين يتحدث الدكتور أحمد عمر هاشم عن أن «الحجاب فرض فى الإسلام» ويرد الدكتور جابر عصفور بأن «الحجاب ليس فرضا فى الإسلام» ينبغى أن ندرك، دون عناء، أن المجتمع لم يتقدم، ولا يزال عاشقا للمساجلات الدائرية التى يٌعاد فى دهاليزها طرح نفس الموضوعات، بواسطة نفس الشخوص، باستخدام نفس الأسلوب، بحيث تصبح أحاديث اليوم صورا مستنسخة من أحاديث الأمس. معركة «الحجاب» و«السفور» مثال بارز على ذلك. قس عليها الخطابات التى تسبح فى المجال العام تحت لافتة محاربة التطرف، وهى عبارة عن مستنسخات لخطابات سابقة لم يكن لها الأثر المرجو. ويصبح من الطبيعى أن نتساءل: لماذا لم يتقدم المجتمع؟ وهل الاستقطاب فى الرؤى واستنساخ الخطابات القديمة جزء من حراك التقدم أم دليل على تمترس فى المكان؟ الإجابة عندى أن المجتمع تغير لكنه لم يتقدم. فقد حدثت ثورتان شهدتا حراكا شعبيا، وبالأخص شبابيا، وانفتح وعى المجتمع على قضايا الحرية، العدالة الاجتماعية، والمشاركة، وظهرت مساحات من النقد للسلطة السياسية من فعاليات الشارع إلى الفضاء الالكتروني، وتنوعت أشكال الاحتجاج، ولم يعد للسلطة الأبوية هيبتها، وقدرتها على تحقيق الضبط الاجتماعي. ورغم التغير الذى حدث، لم يتقدم المجتمع، وإحدى علامات تعثره استدعاء المعارك الكلاسيكية فى الدين التى تختلف عناوينها: الدولة المدنية مقابل الدولة الدينية، مواجهة التطرف والفكر الديني، تحديث الخطاب الديني، إلخ، حيث تدور جميعا فى فلك عدد محدد من القضايا، ويتفرق بشأنها عادة فريقان يخاطب كل منهما جمهوره الخاص: الأول محافظ، متمسك بالنص، يخشى التغيير، يوسع نطاق «المقدس» ليشمل النص الدينى وتفسيراته. والثانى يتبنى نظرة حداثية، معلمنة، يعتمد النظرة النقدية، ويريد أن يوسع من نطاق «النسبي» ويضيق مساحة «المقدس». وما بين أهل «الدين» وأهل «الثقافة» يتوه المجتمع، هؤلاء لهم قادتهم ومؤسساتهم ومنابرهم وجمهورهم، وأولئك لهم قادتهم ومؤسساتهم ومنابرهم وجمهورهم، ضدان بينهما مواجهة مستمرة سافرة حينا ومستترة أحيانا، يحركها الظرف السياسى الذى يسعى كل فريق إلى الإفادة منه فى التمدد على حساب الآخر. هل ينتظر المجتمع ما سوف تسفر عنه مساجلات الفريقين حتى يحسم اختياراته فى الحياة؟ يتغافل هؤلاء وأولئك عن حقيقة مهمة أن المجتمع هو الذى يحدد علاقته بالدين حسب مستوى التطور الاقتصادى والاجتماعى والثقافى الذى يبلغه، وليست مساجلات فرسان المعابد الدينية والثقافية. فى المجتمعات الأقل تقدما يغلب على النقاش الدينى الطابع المحافظ، الذى يخشى الاجتهاد، ويرتاب فى النقد، ويتصور أنه حارس لثقافة الجمهور، وعليه حمايتهم من الانحراف. أما فى المجتمعات المتقدمة فإن الخطاب الدينى ينطلق من نظرة مغايرة تقوم على الحرية الفردية، وإذكاء المشيئة الخاصة للأفراد، وبناء الوعى الإنسانى النقدى وتحقيق العقلانية والخصوصية، وتعزيز قيم الحرية والمساواة والعدالة. إذا أرادت السلطة السياسية أن تطور علاقة المجتمع بالدين، عليها أن تدفعه دفعا على طريق التنمية بكافة صورها، وكلما بلغ محطة متقدمة على طريق التقدم حسم قضايا تحاك حولها المساجلات لعقود دون عائد. الواقع يفرض ضروراته على الخطابات الفكرية أكثر ما يحدد الخطاب شروط الواقع. ولم ينشئ مفكر أو فيلسوف أو رجل دين واقعا، لكن كان الواقع أولا، ثم الخطاب الفكرى تاليا إما تبريرا أو نقدا له. وفى الخبرة التاريخية ظهرت أفكار ثم عدلت مسارها أو تلاشت نتيجة التحولات التى شهدها الواقع. هذه هى المعضلة التى يجب التصدى لها بوضوح. مواجهة التطرف ليست تطويرا شكليا أو لغويا لخطاب ديني، أو انخراطا فى مساجلات حامية بين منتجى الخطابات الدينية والثقافية، لن تسهم فى تطور المجتمع بل تزيده استقطابا، وتشوشا. القضية تتعلق بالتنمية فى المقام الأول، وهى تعبير عن الهندسة السياسية المرغوبة للمجتمع برمته. التنمية تغير نظرة الشخص للحياة، والدين جزء من الحياة. التنمية الاقتصادية والاجتماعية تجعل المجتمع منتجا، وتُذكى قيما مهمة مثل الانجاز، الرغبة فى التجويد، التفكير العلمي، ونبذ الخرافة، وتقدير الوقت، والفردية، واحترام الخصوصية الاجتماعية. التنمية الثقافية تحقق «العدالة الثقافية» فى العلاقة بين المدن والأقاليم، وتشرك أجيالا متنوعة فى الانتاج الثقافي، وتوسع قاعدة انتاج واستهلاك المنتجات الثقافية، وتكسر احتكار الثقافة من جانب نخبة ضيقة، منفصلة عن الواقع. التنمية البشرية ترقى بالتعليم، بمعنى العلم، والتفكير النقدي، والتشجيع على البحث والابتكار، واكتساب المهارات الجديدة. التنمية السياسية تعزز المشاركة العامة، وانفتاح المجال العام، وممارسة النقد السياسى والاجتماعى والثقافي، والتنوع فى الأفكار، وحرية التعبير، مما يحطم دعائم الفكر الأحادى المطلق. إذا بلغ المجتمع خطوات متقدمة على طريق التنمية، تحققت له بالضرورة نظرة مختلفة للدين. تغيير نابع من الحركة أكثر من النظرية. الخطابات الدينية والثقافية تتغير، وتتطور تعبيرا عن حركة المجتمع، وليس العكس. إذا تغير المجتمع هيكليا- اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا- انعكس ذلك على خطاباته الدينية، نتيجة تغير الأفكار، والنظرة إلى الحياة. أما إذا ظل المجتمع على جموده، سادت الخطابات العامة التى تلائم حالته، والمساجلات الدائرية التى تعطيه احساسا وهميا بالتفاعل. فالخطابات لا تغير واقعا، ولا تؤسس للتغيير ذاته، لكنها تدور فى فلك الواقع تأييدا أو ممانعة. البداية إذن تكون بتغيير الواقع. لمزيد من مقالات د. سامح فوزى