المشاركون: التنقية لها شروط ولا مساس بثوابت العقيدة والفتوى ليست تنظيرًا والمفاهيم الخاطئة يجب تصحيحها من آن لآخر يخرج علينا متخصصون من الفقهاء، ليحدثوا بلبلة في المجتمع بفتاوى شاذة وغريبة مثل جماع الزوجة المتوفاة، وإرضاع الكبير، ونكاح البهائم، ولو سألت أيا من هؤلاء المفتين من أين أتيت بهذه الفتوى الغريبة لدلك على المرجع الذي استقى منه فتواه!! إنها كتب التراث الإسلامي التي خطها وحفظها ونقلها إلينا العلماء الأوائل منذ قرون مضت، دون أن يعكف المعاصرون على تهذيبه أو تنقيحه أو تحديثه حتى يتناسب مع متغيرات العصر الذي نعيشه، وذلك في خلط واضح بين الثابت والمتغير في علوم الشريعة، ومن هنا ساد الخلل في خطابنا الديني الذي لم يعد قادرا على التجديد ومسايرة قضايا العصر. هذا ما أكدته مناقشات وبحوث المؤتمر الدولي الثامن لكلية دار العلوم بجامعة المنيا، والذي عقد هذا العام تحت عنوان: “الثابت والمتغير في العلوم العربية والإسلامية” بمشاركة عشرات الباحثين من الدول العربية والإسلامية، وحضره وزيرا الأوقاف والثقافة، ومحافظ المنيا، ورئيس الجامعة، وناقش على مدى ثلاثة أيام آليات وضوابط تنقية كتب التراث الإسلامي، والاستشهاد بالحديث النبوى بين ثوابت التاريخ ومتغيرات الواقع المعاصر. الجهل بالنصوص وأوضح الدكتور محمد عبدالرحمن الريحاني عميد كلية دار العلوم بجامعة المنيا ورئيس المؤتمر، أن الفهم الصحيح للنصوص يأخذنا بصدق لمعالجة كل القضايا الشائكة والمعاصرة والحديثة، مع الخضوع لمعايير التحكيم العلمي الدقيق، وقد أوصى المؤتمر بإنشاء مركز جديد للبحث الجامعي تحت مسمى مركز تجديد الخطاب في العلوم العربية والإسلامية، كي يسهم في إثراء وتفاعل حركة العلوم الإنسانية والنهوض بمؤسسات البحث العلمي بإنشاء إطار مؤسسي أكاديمي يحمل شعار المعرفة العلمية من اجل حوار الحضارات وتكريس مفهوم السلم الاجتماعي وقبول الآخر والإيمان باختلاف وجهات النظر . وحول مفاهيم تنقية كتب التراث وضوابطها يقول الدكتور محمد صالحين أستاذ الفكر الإسلامي بكلية دار العلوم، إن تنقية التراث مصطلح مركب، فالتنقية يُقصد بها إزالةُ شوائب غريبة عن هيكل سليم، وتطهيره من كل العلائق الضارة، أو غير المناسبة لمقتضى الحال، والتراث هو كل جهد إنساني، دَوَّنه علماؤنا السابقون، مما يتعلق بالاجتهاد البشري في جميع علوم الدين والدنيا، وتركوه لنا محفوظًا، عن طريق المخطوطات المكتوبة، وفي حالتنا هذه يكون المقصود ب “تنقية التراث”: وضع معايير علمية، لاستبعاد كل ما يتعارض مع القرآن الكريم، أو يتعارض مع السنة الصحيحة الثابتة، أو يتعارض مع مقاييس العقول السليمة المستوفية شروط التفكير المنطقي الرشيد، أو يتعارض مع الحقائق العلمية الكونية الثابتة، أو يتعارض مع المصالح الحقيقية التي جاء الدين لتحصيلها وتحقيقها، ابتغاء إسعاد البشر في الدنيا والآخرة، وذلك مما ورثناه عن علمائنا السابقين. شروط تنقية التراث وأوضح د. صالحين أن تنقية التراث لها شروط حتى تكون على أكمل وجه، لأنها ليست بالمهمة السهلة، فأولها، أن تنصب على المنتج البشري في التراث، ولا يجوز أن تتجاوز هذا الحد، فتحذفَ آيةً قرآنيةً، بزعم التنقية، أو تُخْرِجَ السنةَ النبويةَ من مصادر التشريع، بدعوى التجديد والتنقية، أو تُلغي حُكمًا مجمعًا عليه منذ عصر النبوة حتى الآن، وهو حُكْمٌ مأخوذ مباشرة من ظاهر نصٍّ قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، لا يحتمل نسخًا، ولا تأويلًا، ولا طعنًا في ثبوته؛ كمحكم القرآن، ومتواتر السنة؛ إنما تنصب التنقية على الاجتهادات البشرية، في فهم النص، أو تنزيله على واقع البشر، كحكم استنباطي أو فُتيا لسائل. وثانيها، وجود داعٍ حقيقي آني أو مستقبلي لهذه التنقية، كحذف قول شاذ أو استبعاد استنباط متشدد، أو وجوب إعادة النظر في فتاوى كانت مناسبة لزمان غير زماننا، أو واقع غير واقعنا. وثالثها، أن يقوم بهذه المهمة الحضارية الجليلة مجمع خبراء من العلماء الذين اشتهروا باستقامتهم الدينية، ووسطيتهم الفكرية، إضافة إلى كونهم في أعلى درجات التخصص الدقيق في علومهم، فليس الأمر متروكًا لكل من هب ودب، بل يتم ذلك تحت الإشراف المباشر للمؤسسات الإسلامية الرسمية. ورابعها، أن يتم تبرير هذه التنقية من النواحي الفكرية والواقعية، حتى تكون مقنعة لجماهير الأمة الإسلامية، كونها صادرة بالإجماع عن هيئات موثوق بها، وفق معايير منهجية غاية في الدقة، وليستْ متعلقةً إلا بمصلحة الأمة. وخامسها، أن يقتصر استبعاد الألفاظ والجمل والفقرات والأحكام الاجتهادية التي يثبت خطأ قائليها، أو عدم مناسبتها لواقع الناس الآن، في الطبعات الجديدة من هذه الكتب والمصنفات فقط، مع ضرورة الاحتفاظ بهذه المادة المستبعدة بموجب منهجية التنقية التراثية، في هيئتها المخطوطية أو طبعاتها القديمة، لئلا يتطاول الزمن، فيظن من يأتي بعدنا من الأحفاد أننا اعتدينا على علوم الأوائل، من ناحية، ولكي يتدارسها العلماء المتخصصون في قاعات الدرس مع طلابهم؛ من ناحية أخرى؛ ليقفوا على أسباب استبعادها - وليس محوها - ليكونوا على بصيرة بأسباب استبعادها، ولئلا يقعوا هم في هذا المحظور؛ بالنسبة لاجتهاداتهم التي ستصير بعد مئات السنين تراثًا لأحفاد أحفادهم. كتب التاريخ ويقول الدكتور محمد علي الجندي، أستاذ الفلسفة الإسلامية والوكيل الأسبق للدراسات العليا والبحوث بكلية دار العلوم، بجامعة المنيا، إن تراثنا الإسلامي يزخر بالعديد من الدراسات والمؤلفات التي عالجت مختلف قضايا الحياة بجوانبها المتعددة، والجانب المنوط به الإصلاح والتنقية هو الجانب المتعلق بالكتابات والمؤلفات التراثية التي تناولت مسائل العقيدة والفرق والمذاهب، وعلوم الفقه وأصوله، وعلم التاريخ والسياسة. وأوصى د. الجندي بمقترحات، تنحصر في تنقية كتب والفرق من نزعات التعصب المذهبي، ومحاولة الانتصار لرأي على آخر، أو تبني اتجاه أو مذهب بعينه على أنه عين الصواب، واعتبار ما دونه خاطئ ومرفوض، وبالنسبة لعلوم الفقه وأصوله وما يتصل بها، والمنوط بها إصدار الفتاوى والأحكام لابد من التوقف أمامها طويلا، خاصة وبعد أن ظهر في أيامنا هذه فتاوى شاذة تنافي الفطرة، مثل (نكاح البهائم) وتنافي ما هو معلوم من الدين بالضرورة، هذا فضلا عن التصدي الكثير من غير المتخصصين بإصدار الفتاوى بغير علم، أو بتأويل متعسف للنصوص قطيعة الثبوت أو قطعية الدلالة، فضلوا وأضلوا، ويجب مراجعة كتب التراث المتعلقة بهذه العلوم السابق ذكرها والتي تدرس للطلاب، وخاصة التي تحوي نصوصا موهمة غير واضحة المغزى والأهداف، والتي تقبل التفسير على أوجه عدة دون حسم أو بيان لحقيقتها، فتفهم على غير مقاصدها وتأول تأويلا خاطئا من البعض الذي يبرر الانحراف والتشدد والعنف. كما يجب أيضا تنقية كتب التاريخ التراثية التي تزيف تاريخ الإسلام، وتكرس للفهم الخاطئ لواقع تاريخنا بما يحفل به من أحداث شكلت في مجملها واقع حضارتنا الإسلامية. انتهاء الفتاوى الشاذة وفي سياق متصل، أوضح الدكتور محمد ممدوح شحاتة، أستاذ الشريعة بكلية الآداب جامعة المنيا، أن تنقية التراث الفقهي بما يخدم الفتوي وتطبيقها في واقعنا المعاصر يفيد المجتمع، ويبين سماحة الدين الإسلامي ومراعاته لظروف الإنسان وواقعه في كل زمان ومكان، فالفتوى مسئولية يحمل المفتي فيها قدرًا كبيرًا، ولكن هناك بعض الفتاوى الشاذة البعيدة كل البعد عن الواقع ولا تخدم المسلم بأي حال من الأحوال، مثل فتوى إرضاع الكبير ونكاح البهائم، بل تساهم مثل هذه الفتاوى في تشويه صورة جوهر الإسلام وغايته، ومن هنا يجب أن يعمل القائمون علي أمر الفتوى بتجديد التراث الديني والفقهي ومراعاة ظروف الواقع وحاجة المسلمين، فيمكن للفتوى الشرعية أن تؤدي دورًا دعويًا مؤثرًا ومتميزًا في العصر الحاضر للمسلم وغير المسلم، مما يساعد علي تقوية مفاهيم الدعوة وأصولها، ويزيل الشبهات والاضطرابات الفكرية، ويفتح آفاق المعرفة للباحثين. ويوضح الدكتور عبدالفتاح إدريس، أستاذ الفقه المقارن، أنه حينما يعلن عن تنقية التراث الإسلامي فالمقصود هنا طرح الغث واستبقاء غيره، وليس في هذا التراث ما يطلق عليه (غث)، وذلك لأن هذا التراث هو الذي تربى عليه أبناء هذه الأمة باعتبار أن كل العلماء والمفكرين في العالم الإسلامي، بل وغير العالم الإسلامي تربوا على هذا التراث، وتم تدوينه في عصور سادت فيها أعراف وقضايا معينة، هذه القضايا وهذه الأعراف تبدلت في زماننا, وأصبح الحال يقتضي ليس التخلص من هذا التراث وإنما تجديد محتواه ليواكب هذا الزمان .