ثمة ما يجب أن نتعلمه كمصريين وكعرب مما جرى فى الانتخابات الأخيرة لمنظمة اليونسكو.هذه هى المرة الثالثة التى يكون فيها لمصر مرشح لرئاسة المنظمة لا يحالفه التوفيق. فى مرتين خسر المرشح المصرى بفارق لم يكن كبيراً عن الفائز. تقدمت المرشحة المصرية السفيرة مشيرة خطّاب على المرشحين العرب وغير العرب فى جولات التصويت الأولى باستثناء مرشح دولة قطر والمرشحة الفرنسية التى كان متوقعاً منذ البداية أن تؤول إليها رئاسة اليونسكو لأكثر من سبب. لكن ليس فى الأمر ما يقلّل من أحقية مصر كدولة فى التطلع لرئاسة اليونسكو ولا فى امتلاك مرشحتها فرصة للفوز (فيما لو) كان للعرب كلمة واحدة. فى النهاية هذه منافسات انتخابية لا أكثر ولا أقل، وقد رأينا مرشح الصين يُمنى بخسارة مدوّية ومفاجئة (بالنسبة لى على الأقل) بحصوله على عدد هزيل من الأصوات لا يتناسب مع دور ومكانة الصين فى الوقت الحاضر لا سيّما فى افريقيا. ثمة ما قيل بشأن محاولة التأثير على تصويت الدول، ومع ذلك فدعونا نعترف ونتساءل متى كانت مثل هذه الأمور منزّهةً عن استخدام سلاح المال أو السياسة؟ هذا واقع علينا إدراكه سواء رضينا به أم لم نرض. لماذا لم يُقدّر للعرب حتى اليوم الفوز برئاسة اليونسكو برغم أن الثقافة العربية تكاد تكون الثقافة الوحيدة التى لم تمثل تاريخياً فى رئاسة منظمة تُعنى أساساً بالثقافة؟ سهولة السؤال تتأتى من سهولة إجابته وهى الانقسام العربى الذى يكاد يتجاوز كونه ظاهرة سياسية ليصبح مسألة نفسية وأنتربولوجية تستعصى على الفهم معترفاً ومعتذراً بشأن قسوة التعبير. من غير المعقول أن يظل العرب يتقدمون لانتخابات اليونسكو بأكثر من مرشح وهم المنتمون جميعاً إلى ثقافة واحدة. بصرف النظر عن الصورة الذهنية السلبية التى أصبحت لصيقة بكل ما هو عربى وقد تعدّدت شواهدها فى الواقع العربى فقد كان يُفترض بل يجب أن يكون لجامعة الدولة العربية دورٌ فى هذا الخصوص من خلال طرح التوافق على اختيار مرشح عربى واحد. لا يبدو مقنعاً التذرع بأن الجامعة العربية لا تملك مثل هذا القرار. قد يكون هذا صحيحاً من الناحية القانونية لكن الصحيح أيضاً أن أمانة الجامعة تستطيع إيجاد رأى عام بأهمية وجدوى الاتفاق على مرشح عربى واحد فى انتخابات منظمة مثل اليونسكو. دون انتقاصٍ من الآخرين- دولاً وأفراداً مرشحين- فإن أحقية مصر «العربية» فى التطلع لرئاسة اليونسكو ينبع من كونها تجمع- تاريخاً ودوراً وثقافة بين أبعاد شتى قلّما تجتمع لدولة أخرى غيرها وهى البعد المتوسطي، والعربي، والافريقي، والإسلامي، والمسيحى أيضاً باعتبار مسيحيى مصر هم الأكثر عدداً وتجذراً مقارنة بدول شمال افريقيا مثلاً. هذا بخلاف أبعادها التاريخية الأخرى مثل البعد الفرعوني. أتذكر هنا ما رواه لى أستاذى الراحل د. سامى عبد الحميد أستاذ القانون الدولى وسفير مصر السابق لدى اليونسكو أنه قدّم أوراق اعتماده أمام مديرها السابق «فرديريكو ماير» قائلاً إن بلدى مصر هى إحدى الدول المؤسسة لليونسكو والأمم المتحدة فردّ عليه »ماير« قائلاً بل مصر دولة مؤسسة للحضارة الإنسانية كلها. مشكلة أى مرشح عربى لليونسكو ليست فى عدم جدارته الشخصية ولكن المشكلة أنه محسوب فى نظر العالم على دول لديها أزمات وتناقضات ومعارك غير متوافقة مع القيم الإنسانية التى يُفترض أن اليونسكو قد وُجدت لنشرها والدفاع عنها لا سيّما إذا كان هذا المرشح قد شغل منصباً حكومياً. لست مقتنعاً تماماً بأن الدول الغربية تستطيع منع عربى من رئاسة اليونسكو فيما لو نسّق العرب جهودهم وتكاملت أدوارهم، ربما لا تتحمس لمرشح عربى لليونسكو لكنها لا تملك الحيلولة دون ذلك لأنها تمثل أقلية عددية داخل الكتلة التصويتية لليونسكو. المسألة هى أولاً وأخيراً فى الأداء العربي. والواقع إنه آن الأوان للسلطات المعنية فى الدولة بمسألة ترشيح مصرى لرئاسة اليونسكو أن تفكر منذ الآن بطريقة مختلفة لا سيّما وما زالت الفرصة سانحة لأنه باختيار الفرنسية «أودرى أزولاي» هذه المرة يصبح متاحاً اختيار مرشح عربى فى المرات المقبلة. لم أفهم مثلاً لماذا لم تفكر الدولة المصرية من قبل فى ترشيح شخص مثل زاهى حواس مديراً عاماً لليونسكو؟ ولم أفهم أيضاً لماذا لا تحرص الخارجية المصرية وهى المؤسسة التى تُدار باحترافية على الدفع منذ الآن بسفير مصرى نشط ومتميز لدى اليونسكو يجمع بين الكفاءة المهنية والتميز الثقافى لفترة أو فترتين يُتاح له خلالهما الانغماس داخل دولاب عمل اليونسكو وتوطيد الصلات مع السفراء ومراكز التأثير داخلها. ومادام لليونسكو كل هذا الاهتمام لدينا فلماذا لا تبدأ حركتنا فى تهيئة مرشح مناسب منذ الآن بدلاً من الانتظار حتى الشهورالأخيرة السابقة على الانتخابات؟ ويبدو أن مصر ليست حاضرة بما يكفى فى الأنشطة الافريقية الثقافية سواء داخل اليونسكو أو خارجها لا سيّما ونحن نعرف أن لافريقيا عدداً لايُستهان به من الأصوات داخل المجلس التنفيذى المنوط به اختيار المدير العام. يبقى فى النهاية مسألة فوز الفرنسية «أودرى أزولاي» برئاسة اليونسكو، وليس فيه ما يُدهش، فهى تنتمى إلى دولة المقر بكل ما يعنيه هذا من أمور، والأرجح أن دولاً ثقيلة كانت تدفعها من خلف الستار. مؤكد أن السيدة «أزولاي» لا تنقصها الكفاءة لكن ما يلفت الانتباه هو تصريحها المريب عن أنه قد حان الوقت لكى يتوقف تسييس العمل داخل اليونسكو. فمن الواضح أن هذا التصريح ليس منبت الصلة بالقرارات التى اتخذتها اليونسكو ضد إسرائيل سواء بقبولها عضوية فلسطين فى المنظمة أو بتصنيف الحرم القدسى أثراً فلسطينياً ينتمى إلى التراث الإنسانى فى تجاهل لأكاذيب إسرائيل ومحاولاتها طمس كل ما يُذكّر العالم بالحقائق التاريخية فى فلسطينالمحتلة. غريب ومجحف أن تعتبر المديرة المنتخبة الجديدة لليونسكو أن مثل هذه القرارات المنصفة تمثل تسييساً لعمل اليونسكو. ولعلّ العكس تماماً هو الصحيح، فلو لم تصدر اليونسكو مثل هذه القرارات لكان هذا هو التسييس بعينه. السيدة «أزولاي» تسمى الأشياء بعكس معناها الحقيقى وتساير الموقف الأمريكى الذى يرى الإنصاف التاريخى انحيازاً والجهر بالحقائق تسييساً. ويبدو أن الوفود العربية فى اليونسكو ينتظرها عبء كبير مقبل فى مواجهة هذه الإشارات غير المطمئنة. من حق أمريكا أن تنسحب من اليونسكو تحت وطأة مستحقات مالية متأخرة عليها تجاوزت نصف مليار دولار، أو بسبب ما تصفه بالانفاق غير الرشيد، لكن ليس من حق أمريكا الادعاء بانحياز اليونسكو ضد إسرائيل وإلا فإننا مطالبون بوضع ميثاق اليونسكو والأمم المتحدة فى يد وسجل التزييف الإسرائيلى لحقائق التراث الثقافى الفلسطينى فى اليد الأخرى ولنقرر بعدها ماذا يعنى الانحياز؟ لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم;