لم يعد بلدوزر المعلمة فضة المعداوي الذي ظهر في الحلقة الأخيرة من رائعة الراحل المبدع أسامة انور عكاشة الراية البيضا يشير فقط إلي كتيبة الفساد في سعيها إلي هدم القصر التراثي الذي يمثل الحضارة والجمال والقيم. فها نحن نتواجه مع بعث جديد للبلدوزر وهو يسعي لزعزعة واقتلاع أساسات الدستور المدني ليحل محله بناء مفارق للحس المصري والمدنية المصرية ويبدو أن المعركة تدار باقتدار وترتيب وإصرار من جانب القادمين الجدد, ولن أتوقف أمام تشكيل التأسيسية الأولي والثانية بعوار أفضي إلي إبطال الأولي ويرجح ابطال الثانية والإصرار علي الاحتفاط بأغلبية تضمن لهم تمرير رؤيتهم عند التصويت علي طرحهم, فهو أمر بين لكل ذي عينين. وقد كانت البداية بعيدة حين أطلقوا قنبلة دخان تقول بدين للدولة وراحوا يروجون للفكرة حتي صارت من الخطوط الحمراء التي يحظر الاقتراب منها ويعتبر في الذهنية العامة إقصاء للإسلام, وأغفلوا ان مصر بلد التنوع والتعدد, وصار الدين هوية وتراجع الوطن, وكأن غير المسلمين, عندهم أسري داخل وطن وعليهم أن يأتمروا بأمرهم وينتظروا تأويلاتهم التي تلقي لهم بالفتات الساقط من موائدهم, وبعد أن كان الحديث عن غير المسلمين تراجع ليصبح حديثا عن حقوق اصحاب الديانات السماوية, ثم يستبدل التوصيف ليصبح المسيحيين واليهود حتي يتحاشوا وصفهما بالأديان السماوية!!. ولم يعد يجدي السؤال عن ماهية ومدلول كلمة الدولة التي تدين بدين بعينه هل هي المؤسسات الدستورية؟ أم هي البنايات والشوارع والقري والمدن؟ أم هي الوزارات والدواوين؟ وفي أي منها يستقيم تديينها؟ كانت قنبلة الدخان الثانية هي زوبعة الحديث عن المادة الثانية ذلك اللغم العائم والغائم والقابل للانفجار دوما, وتحول الجدل من المادة بين الإبقاء والإلغاء, إلي الجدل بين الحفاظ عليها كما هي وبين الإيغال في التشدد وإحكام اختطاف الوطن الي ارض الدولة الدينية, بالانتقال من المبادئ إلي الأحكام أو إلي الشريعة علي إطلاقها, وحتي يطمئن الأغيار أضافوا فقرة تقول إن لهم أن يرجعوا إلي شرائعهم فيما يخص أحوالهم الشخصية بما لا يخالف النظام العام, وهي إضافة لا تأتي بجديد, فوفق الفقه الإسلامي المستقر, يقع هذا المبدأ في الصدارة وتأخذ به جميع التشريعات قبلا, وقدر قيد حقهم في الاحتكام لشرائعهم بعدم مخالفته للنظام العام والذي يعني عندهم عدم مخالفته للشريعة الإسلامية باعتبارها قوام النظام العام!!, وحين تثار أزمة التأويل والخوف من سيطرة المتشددين علي المشهد يضيفون أن الأزهر هو الجهة الوحيدة للرقابة علي عدم مخالفة التشريعات للشريعة, وهو أمر يحمل خطرين, أولهما مزاحمة المحكمة الدستورية في تفردها بحق تفسير النصوص الدستورية. وثانيهما التعويل علي وسطية الأزهر لتمرير النص بينما تشهد الأروقة الخلفية سعيا حثيثا للسيطرة من قبل القادمين الجدد علي هذا الصرح وصبغه بتشددهم ومن ثم القفز علي سلطة التفسير المخولة له هنا. وسط حالة الإرباك المتعمدة تنتقل المعركة إلي المادة الثالثة ثم إلي المادة الأولي وكذلك المادة السابعة, والمادة الثانية عشرة, فيما يشي بالإصرار علي إحكام السيطرة علي مفاصل الدستور. يأتي القادمون الجدد ليحاولوا نزع السيادة من الشعب لتصبح السيادة لله وكأن الشعب المصري بحاجة إلي نص دستوري يقرر ان السيادة لله, وليت الأمر يتوقف عند هذا فمن المستقر أن النص الدستوري يتم تفكيكه الي حزمة من القوانين عبر البرلمان وفي هذه المادة نلمس أمرين مهمين; فعندما كان النص السيادة للأمة كانت الأحكام تصدر باسم الأمة وكان البرلمان يسمي مجلس الأمة, وحين صار النص السيادة للشعب صارت الأحكام تصدر باسم الشعب وصار البرلمان يسمي مجلس الشعب, فهل عندما يكون النص السيادة لله ستصدر الأحكام باسم الله, بما يدعو الي التوقف عن استئناف الأحكام أو الطعن عليها أو نقضها لأنها تنسحب الي الاعتراض علي حكم صادر باسم الله؟, فإذا طالعنا رؤية ذلك الفصيل المسيطر فيما يتعلق بالمادة الأولي نصطدم باستبعاد تعبيرات المواطنة والمدنية وإضافة تعبير مصر دولة شورية وهو تعبير يحتاج إلي مذكرة تفسيرية لغويا وسياسيا, مع ادراك ان الشوري بحسب أدبياتهم غير ملزمة للحاكم, لتتفكك الإرادة الشعبية لحساب الحكم المطلق الديكتاتوري, ونكون قد مهدنا الطريق لدولة يحكمها فصيل منفردا ويقودنا إلي دولة دينية بامتياز. عندما نتوقف أمام المادة السابعة التي تقول: المواطنون لدي القانون سواء, وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة, لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة, ونطالع مقترح القادمين الجدد بشأنها والذي يقول: المواطنون لدي القانون سواء, وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة, لاتمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة, بما لايخالف النظام العام, وهنا وفق مفهوم النظام العام عندهم نقنن التعامل مع غير المسلمين باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية ونستعيد أطروحات اهل الذمة والجزية والولاية العامة وما دون ذلك بالعودة الي الأنساق الاجتماعية في العلاقة الكارثية مع غير المسلمين التي شهدتها سنوات وعقود الاحتلال العثماني المسكوت عنها. إذا انتقلنا إلي المادة 12: تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية, وحرية الرأي مكفولة, نجد اقتراح القادمين الجدد: تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية في إطار النظام العام بما لايخالف الشريعة الإسلامية, حرية الرأي مكفولة. ولكل إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير في حدود النظام العام والقانون, وفي حالة مخالفة القانون فللمجني عليه أو المدعي بالحق المدني حق رفع الدعوي الجنائية مباشرة إلي المحكمة المختصة, والنقد الذاتي والنقد البناء ضمان لسلامة البناء الوطني. اعتقد أن الأمر هنا لا يحتاج الي تعليق فلم يكتف الطرح بتفريغ الحريات المنصوص عليها, بل أحال ما لا يروق لهم إلي محكمة الجنايات, دون أن يحدد من المجني عليه ومن المدعي بالحق المدني في خلط بين الدستور والقانون. ونحن بهذا نكون أمام جمعية لاختطاف الدستور إلي مربع الدولة الدينية بامتياز لا تنفرد فقط بوضع الدستور لكنها تنفرد بالوطن بجملته, وتغفل انها ليست وحدها صاحبة الحق في تقرير مصير الوطن وأن حق شركاء الوطن سيظل قائما أبدا في رسم مستقبله وفق المعايير المستقرة في العالم بأسره. وفي يقيني أن الوطن أكبر من ان يختطف لحساب فصيل مهما كانت قوته.