المؤسسات الدينية الرسمية الإسلامية والمسيحية فى مصر والإقليم العربى تواجه مجموعة من التحديات الهيكلية الكبرى فى ظل عالم يموج بالعنف والإرهاب، ويرهص بتحولات نوعية فى ظل الثورات المستمرة والمتتالية داخل الثورة الرقمية، ومؤشرات التحول من الإنسان الطبيعى إلى الإنسان الرقمي، وعمليات الاستنساخ. عالم عاصف بالتغيرات الجديدة، فى الأنساق اللغوية، والعقل وآليات التفكير، وأنظمة المعنى واشكالياتها، والهويات المتشظية والمفترسة، عوالم تتقوض، وتتفكك، وأخرى تتشكل، ويتداخل فيها الحداثة وما بعدها، وما بعد بعدها على نحو سريع. ثمة ما يصارعون من أجل التكيف النسبى مع هذا العالم المابعدي، فى المجتمعات الأكثر تطورًا، وهناك آخرون يعانون فى قسوة مخاضات مؤلمة جراء تخلفهم عما يجرى من ثورات تقنية وفى القيم وأساليب التفكير والإدارة، والأنظمة المعرفية، وأنماط الحياة اليومية. عوالم من التداخلات والصراعات بين التقليدى والحديث وما بعده، وتفكك وتشظى فى عديد من الأبنية ومنظومات القيم وازدواجياتها بين المعلن والمضمر، والطقسى الشكلى وما وراءه وفى الحياة والحركة والتفاعل من وراء الأقنعة وأكاذيبها واستعراضاتها، فى صراعات على المصالح الدنيوية بين شكلانية السلوك والخطاب الدينى اليومي، وبين الكذب والالتواء ومقارفة الدنايا. عالم مضطرب ومختلف على جميع المستويات الوطنية والإقليمية وما بعد العولمية. فى ظل هذه السياقات المضطربة والقلقة والمفعمة باللايقين، والمستقبل الغائم والغامض تبدو المؤسسات الدينية الرسمية فى وضعية صعبة بين تقاليدها الموروثة، وبين الواقع الذى تعمل فى إطاره، ولا تستطيع التأثير الفعال فى دوائره فى ظل تفاقم الأزمات وتكالب المشكلات التى تمس الشروط الضرورية للحياة عند الحافة لعشرات الملايين من المعسورين، ومن ثم تعانى هذه المؤسسات أيًا كانت أديانها ومذاهبها من قدرتها على التكيف النسبى مع تحولات الواقع الموضوعى المتغير، ومن ثم تواجه عديد التحديات، وذلك على النحو التالي: تحدى مواكبة الثورات الرقمية والمعرفية وفى العلوم الطبيعية، وما تطرحه من أسئلة جديدة وغير مألوفة على أنظمة التفكير الديني، فى الفقه والتفسير والتأويل ومناهج مقاربة الظواهر والمشكلات التى لم تكن معروفة فى الفقه واللاهوت وتعاليم الآباء. من ناحية أخرى ميلُ غالب رجال الدين إلى المحافظة الشديدة، والانصياع إلى الالتزام الصارم بالتقاليد الدينية الموروثة، والمنظومات النقلية خشية التفكك، أو نشوب صراعات تأويلية تؤثر على تماسك المؤسسة، أو الحفاظ على استقرارها النسبي. هذا الاتجاه النقلى المحافظ، يبدو بالغ الصرامة والعنف والقسوة إزاء أية محاولات تجديدية أو إصلاحية تبدو من خارج المؤسسة، أو من بعض أشخاصها من داخلها لأن الأولوية فى نظر غالبية المحافظين والغلاة هو تماسك المؤسسة، ومن ثم مجموعة المصالح والمكانات المترتبة على بقاء الأوضاع على ما هو عليه، هذا النمط من الصراعات فى المؤسسة الدينية وعليها، هو أمر طبيعى فى جميع المؤسسات الرسمية التى ران عليها التقليد والجمود المؤسسي، ومن ثم مقاومة التغيير والإصلاح أو التجديد الهيكلي. عدم قدرة التكوين التعليمى النقلى ومناهجه لغالبية رجال المؤسسة على استيعاب التطورات الجديدة فى مجال ثورة المناهج الألسنية/ اللغوية، وتطور مناهجها فى مجال العلوم الاجتماعية، أو فى دراسة تاريخ الأديان، أو تحليل النصوص الدينية أو تأويلها، ومن ثم يعاد إنتاج أنظمة التفسير والتأويل ومعها التفسير والسير وتاريخ المذاهب وإنتاجها الفقهى لمؤسسى المذهب والمدرسة وتابعيه وتابعى التابعين، وبمرور الزمن أضفى بعضهم هيبة على هذا الإنتاج الفقهى والإفتائي، ويرفضون أى مقاربة تاريخية ونقدية لبعض هذا الإنتاج الدينى الوضعى البشرى الذى كان موصولاً بأسئلة ومشكلات الزمان والمكان وسياقاتها ومحمولاتهما، ومن ثم يغدو البشري/ الفقهي/ التأويلى مفارقًا للحظته التاريخية، ويغدو متعاليًا عن هموم ومشكلات الإنسان المسلم المعاصر. هذا ينطبق إلى حد ما على بعض رجال الدين المسيحيين وغيرهم ممن لم يستوعبوا اتجاهات التفسير الديني، والثورة اللوثرية والكالفينية وما بعدهما فى الدراسات اللاهوتية، وتاريخ المسيحية، التى شكل تطورًا نوعيًا استفاد من عديد التطورات المنهجية فى العلوم الاجتماعية. الصراعات الإقليمية والعالمية بين المؤسسات الدينية الوطنية بين بعضها بعضًا على المكانة والمرجعية والأدوار ما فوق الوطنية، وذلك لأن السياسات الدينية الرسمية الوطنية ما بعد الاستقلال تأسس بعض مكوناتها على تأسيس مؤسسة دينية وطنية فى كل دولة كأحدى علامات الاستقلال، ورمز على الدولة الوطنية الناشئة، وبمرور الوقت تراجعت أدوار المؤسسات الدينية الإسلامية التاريخية الكبري، ومنها الأزهر الشريف، ومن ثم صعدت أدوار الزيتونة، والمؤسسة الوهابية، والمؤسسة الدينية فى المغرب، وفى تركيا .. إلخ. هذا التحدى يشكل جزءًا من تحولات الإقليم، والدول الإسلامية ومن ثم لم تعد الأدوار التاريخية قابلة للاستمرارية إلا بالقدرة على التجديد المؤسسى والفقهى والتفسيرى والإفتائي، وتجاوبه مع متغيرات عصرنا. لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح