ولوصول الكتاب قصة. صدر فى بيروت، وبسبب تعويم الجنيه قررت دور النشر العربية والعالمية عدم إرسال كتبها للقاهرة. كان لا بُد من الحصول عليه. الصديق عاصم الشيدي، الصحفى العمانى الشاب تكفَّل بهذا. وبدلاً من إرساله بالبريد، أعطاه لعبد الله السناوي، كانا يحضران ندوة. وذهبت للزمالك لآخذ الكتاب وكتاب السناوى عن هيكل: حوارات برقاش هيكل بلا حدود. عنوانه الفرعى بعد كلمة الملاك: الجاسوس المصرى الذى أنقذ إسرائيل. مؤلفه: يورى بار جوزيف. ومنشور فى الدار العربية للعلوم ناشرون. وترجمه عن العبرية فادى داؤد. والكتاب مؤلفه إسرائيلى، وناشر نسخته العبرية إسرائيلي، وموضوعه القصة المزعومة للعدو الإسرائيلى حول الجاسوس المصرى الذى أنقذهم من حرب أكتوبر أشرف مروان. لم يكتفوا بالكتاب. ولا أعرف إلى أى لغات فى العالم تمت ترجمته. علاوة على العربية. لكن العدو الصهيونى يموِّل الآن فيلماً سينمائياً عالمياً عن أشرف مروان. يجرى تصويره الآن فى المغرب وفى بلغاريا ويلعب دور مروان الممثل الهولندي: مروان كنزاري. المسألة تشغل بال العدو. ويعمل عليها. ولن أعرض بنيان الأكاذيب التى يمتلئ بها الكتاب. 367 صفحة من القطع الكبير. فعرض الأكاذيب حتى لو قمت بالرد عليها يروج لها. ويوصلها لمن قد لا يكون عقله جدلياً ويخضع ما يقال للمنطق وقد يصدقه. وبهذا أكون قد خدمت عدوى وعدوكم وحققت أهدافه من وراء نشر الكتاب. الهدف ليس أشرف مروان كشخص. لكن من خلال قراءة ومعايشة الكتاب والمسألة لم تكن سهلة بالنسبة لى النيل من انتصار أكتوبر العظيم عليهم وتحويل الأمر كما لو كان لعبة كانوا يعرفونها مسبقاً من الجاسوس المصري. مع أنه لم يخبرهم بالموعد بدقة. كانت الحرب فى الثانية بعد الظهر السادس من أكتوبر 1973، وأبلغهم أنها فى السادسة من مساء نفس اليوم. هدف آخر من وراء الكتاب أن يقول إن زوج ابنة جمال عبد الناصر وهو من هو سعى إليهم وذهب إلى سفارتهم بلندن عارضاً من تلقاء نفسه ودون أن يطلبوا منه، أو أن يحاولوا استمالته أن يكون جاسوساً لهم فى مصر. وفى اللقاء الأول أمدهم بوثائق ما كانوا يحلمون بوصولها إليهم. من أهداف نشر الكتاب، وبالتالى الفيلم السينمائى الذى ينفذ الآن عن الكتاب. إبراز بطولاتهم فى التعامل مع حرب السادس من أكتوبر. ومحاسبتهم لأنفسهم. ومحاكمتهم لمسئوليهم بسبب التقصير الذى مكَّن المصريين من عبور قناة السويس. وحتى العبور، فإن الكتاب يورده بطريقة تضغط على مشاعر الإنسان الوطنية وإحساسه ببلاده، خصوصاً من عاصر حرب أكتوبر مثلي. لم أعرف أشرف مروان فى حياته. المرة الوحيدة التى رأيته فيها رؤى العين، كنت عائداً من لندن سنة 1986، وكما أفعل عادة فلا أستخدم سوى مصر للطيران. أشعر بأننى عُدت لبلادى قبل أن أعود إليها. كان قد حجز ثلاثة مقاعد تشكل صفاً، استخدم مقعداً، ووضع الصحف العربية والأجنبية على المقعد المجاور، أما المقعد الثالث الذى يطل على النافذة، تركه خالياً. ما إن رأيت أكوام الصحف معه حتى جرى بداخلى اهتمام به. فالرجل لم ينظر وراءه لأشاهد وجهه. وقد سألت المضيفة عن الصحف المصرية، فقالت إن الموجودة معهم قديمة. وعندما سألتها على من معه الصحف، قالت لى إنه الدكتور أشرف مروان.قاومت رغبتى أن أطلب منه صحفاً. أو أن أتحدث معه رغم طول المسافة. كان يجلس فى عالم يخصه وحده. كأنه ليس حوله أحد. قاوم الفضول بداخله وأعطى اهتمامه للصحف التى قضى الوقت يتصفحها. لم يكن يقرأ بقدر ما كان يحاول أن يري. لم يكن يستوعب، إنما كان يتفرج على صفحات الجرائد والمجلات. لن أدّون ما سمعته عنه فى حياته. ولا بعد أن بدأ العدو الإسرائيلى فى الترويج لقصة تجسسه التطوعية لهم. فكعادة المصريين فإن من يعرف يقول. ومن لا يعرف يفتي. ومن لم يره يدَّعى أنه كان صديقاً له، ويعمل الخيال المصرى جيداً ليسد الثقوب بين الحكايات. سمعت الكثير عنه من مسئولين ومن شهود، وأهم ما سمعته كان من الأستاذ محمد حسنين هيكل الذى نفتقده كثيراً الآن. لكن تدوين ما قيل لي، ربما يختلف مع هدفي، ألا وهو: كيف نتعامل مع هذه الحرب النفسية الجديدة؟. قرأت الكتاب. وهى ليست قراءة بقدر ما كانت ملاعق من العلقم. تناولتها رغم أنفى وأحسست بشعور غريب، أن مجرد قراءة الكتاب ربما كانت تطبيعاً مع عدو أعتبر أن أى صلة به خيانة لدماء الشهداء الذين حاربوه دفاعاً عن الأرض والعرض، من 1948 حتى 1973. اتصلت فى أثناء القراءة باللواء محمد عبد السلام المحجوب، الذى سمّاه أهالى الإسكندرية عندما كان محافظاً لها: المحبوب. عرفته فى الصالون الثقافى للدكتور أحمد العزبى المتوقف الآن. وعبد السلام المحجوب فيه كل مزايا الشخصية المصرية من البساطة والتواضع وإنكار الذات والبعد عن الغرور ومقاومة الخيلاء الإنساني. أكد لى دون دخول فى الموضوع أن الكتاب جزء من الحرب النفسية التى يشنها علينا الأعداء. والمطلوب أن نتعامل معها باعتبارها حرباً وليست أقل من هذا. سألت اللواء المحجوب: لماذا نصمت فى مواجهة هذه الحرب؟ الكتاب ها هو، والفيلم قادم قادم لا محالة. والسينما لها سحرها ووصولها لكل البشر سواء كانوا يقرأون أو لا يقرأون. ألا يعد الصمت تسليماً منا بأن ما يقال ربما كان حقيقياً؟ ألسنا نترك الميدان لأعدائنا يصولون ويجولون فيه ويفعلون ما يريدون؟ ونحن كأننا لا وجود لنا.الكتاب لا يهاجم مروان فقط. لكنه يهاجم الكيان المصري. ويركز كثيراً على جهاز المخابرات المصرية. حصننا وأمننا وأماننا. يذكر الجهاز أكثر من عشر مرات فى الكتاب بالاسم. وبالتالى فلا بد من الرد. اللواء المحجوب وافقنى على ضرورة وأهمية الرد. لكنه لم يزد على ذلك. أكتب كلمة الرد وأنا حزين. من يترك الطلقة الأولى لعدوه، يخسر نصف الطريق إلى النصر. هكذا قال علماء الاستراتيجية والحروب. وكتاب الملاك ليس الأول، ففيه إشارات لكتب كثيرة صدرت بتل أبيب ولندن عن الموضوع. ونحن وكأننا لا وجود لنا. لمزيد من مقالات يوسف القعيد;