«التنظيم والإدارة» يعلن ترتيب امتحانات مسابقات التوظيف حتى نهاية العام    وزير الشئون النيابية يحضر جلسة النواب بشأن قانون تنظيم بعض الأحكام المتعلقة بملكية الدولة في الشركات المملوكة لها    رئيس تجارية القليوبية: التمويل التنموي يحفز الاستثمارات ويعزز تنافسية القطاع الخاص    الأردن: انتهاك مجالنا الجوي محاولة لجرنا إلى صراع إسرائيل وإيران    السعودية: وصول طلائع الحجاج الإيرانيين إلى مطار "عرعر" تمهيدًا لمغادرتهم    أوليس أفضل لاعب بمباراة بايرن ميونخ ضد أوكلاند سيتى فى كأس العالم للأندية    قافلة الصمود تتراجع إلى نقطة آمنة بسرت في ليبيا "حتى إطلاق سراح الموقوفين"    بايرن ميونخ يكتب التاريخ في مونديال الأندية| رقمان جديدان    تحفظ جديد من إدارة الزمالك بشأن صفقات فريق الكرة    مصر لا تنسى تضحيات أبنائها المخلصين| إطلاق مبادرة للأبناء القصّر لشهداء القوات المسلحة والشرطة والمدنيين    تأجيل مؤتمر مهرجان جرش للثقافة والفنون    نجوى كرم تطرح أحدث أغانيها «حالة طوارئ» | فيديو    وجدي زين الدين: إسرائيل تخوض حربًا دينية والهدف الحقيقي من التصعيد هو مصر    طرح البوستر الرسمي ل «مملكة الحرير» بطولة كريم محمود عبد العزيز    كيف تنظم المرأة وقتها بين العبادة والأمور الدنيوية؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    العمليات العسكرية الإسرائيلية وتوجيهات رئاسية جديدة تتصدر نشاط السيسي اليوم    صراع مع آلة لا تعرف الرحمة.. «نيويورك تايمز»: الذكاء الاصطناعي يدفع البشر للجنون    ضبط المتهمين بقتل سائق توك توك وإلقاء جثته بمقابر أسوان    جبل القلالي يحتفل بتجليس الأنبا باخوميوس أسقفًا ورئيسًا للدير (صور)    تنسيقية شباب الأحزاب تحتفل بمرور 7 سنوات على تأسيسها.. وتؤكد: مستمرين كركيزة سياسية في الجمهورية الجديدة    توتر في الأهلي.. لماذا انفجر بن شرقي بسبب صدام إنتر ميامي؟    التعليم: تدريب مجاني لمعلمي الإنجليزية بالتنسيق مع السفارة الأمريكية -(مستند)    رامي جمال يوجه رسالة لجمهور جدة بعد حفله الأخير    «جزار الوراق» ينكر التعدي على تلميذة: «ردت علىَّ بقلة ذوق فضربتها بس» (خاص)    بوستات تهنئة برأس السنة الهجرية للفيس بوك    10 سلوكيات خاطئة ابتعدى عنهم مع أطفالك حفاظا على صحتهم    التنظيم والإدارة يعلن ترتيب امتحانات مسابقات التوظيف بالجهاز الإداري للدولة    رئيس جامعة المنوفية يرأس لجنة مقابلات لتجديد مناصب مديري العموم وأمناء الكليات    رئيس مجلس الدولة يفتتح فرع توثيق مجمع المحاكم بالأقصر    محافظ الغربية يجرى جولة مفاجئة داخل مبنى الوحدة المحلية بسبرباى بمركز طنطا    احذر عند التعامل معهم.. أكثر 3 أبراج غضبًا    المتحف المصري الكبير يستقبل الزائرين.. وإلغاء قرار الغلق بداية من اليوم    لطيفة تؤجل طرح ألبومها الجديد بعد صدمة وفاة شقيقها نور الدين    الجريدة الرسمية تنشر قرارا جديدا ل رئيس الوزراء (تفاصيل)    إيران تنفي إرسال أيّ طلب إلى قبرص لنقل «رسائل» إلى إسرائيل    رئيس وزراء العراق: نرفض اختراق أجوائنا ونبذل أقصى درجات ضبط النفس    طب قصر العيني تُحقق انجازًا في الكشف المبكر عن مضاعفات فقر الدم المنجلي لدى الأطفال    طريقة عمل فطيرة السكر باللبن في خطوات بسيطة    قوافل الأحوال المدنية تواصل تقديم خدماتها للمواطنين بالمحافظات    في عيد ميلاده ال33.. محمد صلاح يخلد اسمه في سجلات المجد    تعليم الأقصر: غرفة العمليات لم تتلقَ أي شكاوى بشأن امتحاني مادتي التربية الوطنية والدين للثانوية العامة    توتنهام يضم الفرنسي ماتيل تيل بشكل نهائي من بايرن ميونخ    قرارات إزالة لمخالفات بناء وتعديات بالقاهرة وبورسعيد والساحل الشمالي    "لا للملوك": شعار الاحتجاجات الرافضة لترامب بالتزامن مع احتفال ذكرى تأسيس الجيش الأمريكي    استمرار استقبال محصول القمح المحلي للمواقع التخزينية بالشرقية    "طوارئ" بشركات الكهرباء تزامنًا مع امتحانات الثانوية العامة    يسري جبر يوضح تفسير الرؤيا في تعذيب العصاة    محافظ أسيوط يشهد فعاليات اليوم العلمي الأول للتوعية بمرض الديمنشيا    تحرير 146 مخالفة للمحلات لعدم الالتزام بقرار ترشيد استهلاك الكهرباء    «خلافات أسرية».. «الداخلية» تكشف ملابسات مشاجرة بالأسلحة البيضاء في البحيرة    تداول امتحان التربية الدينية بجروبات الغش بعد توزيعه في لجان الثانوية العامة    ماراثون الثانوية العامة بدأ.. طلاب الأقصر يتوافدون على اللجان لأداء أول يوم امتحانات    الأهلي أوقفه.. ميسي يتعطل لأول مرة في كأس العالم للأندية    بمناسبة العام الهجري الجديد 1447.. عبارات تعليمية وإيمانية بسيطة للأطفال    الغارات الإسرائيلية على طهران تستهدف مستودعا للنفط    أصل التقويم الهجري.. لماذا بدأ من الهجرة النبوية؟    تعليق ساخر من مجدي عبد الغني على مدرب الأهلي قبل مواجهة إنتر ميامي    هاني رمزي: خبرات لاعبي الأهلي كلمة السر أمام إنتر ميامي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤى نقدية
شجون جامعية
نشر في الأهرام اليومي يوم 18 - 08 - 2017

1- انحدار مستوى الطلاب فى الجامعة هاتفتنى زميلتى الدكتورة لبنى عبد التواب يوسف؛ لكى تناقش معى النتيجة التى انتهى إليها طلاب وطالبات الماچستير فى قسم اللغة العربية الذين قمت بالتدريس لهم مادة «مناهج البحث الأدبى». فقد كانت النتيجة صادمة لإدارة الكلية فيما يبدو؛
إذ لم ينجح أحد فى هذه المادة، ونال الطلبة جميعا درجات لا تؤهلهم للنجاح فى هذه المادة. وأخبرتنى الزميلة الفاضلة أن هذه النتيجة أمر غير معتاد، وأنى يجب أن أراجع التصحيح، ربما أصل إلى نتيجة مغايرة لمصلحة الطلاب. وكانت الزميلة الفاضلة تعرف أن لها مكانة فى نفسى، فهى ابنة صديقى المرحوم عبد التواب يوسف، وهو أكبر كتاب أدب الطفل فى مصر لزمن طويل، وقد كنت على علاقة وثيقة به من خلال الجمعية الأدبية المصرية التى كان ينتسب إليها كلانا، وامتدت صداقتى به لسنوات طويلة عرفت خلالها خلقه النبيل ومعارفه المتجددة وإبداعه الأصيل. ومرت الأيام وغادرنا عبد التواب يوسف، لكنه ترك لنا من أولاده ما نفخر بهم جميعا، سواء فى وزارة الخارجية أو فى كلية الآداب أو فى الإبداع الأدبى. أما فى كلية الآداب، فقد ترقت ابنته لبنى- إداريا- إلى أن أصبحت وكيلة الكلية لشؤون الدراسات العليا، ومن ثَمَّ المشرف على الامتحانات الخاصة بطلاب الماچستير والدكتوراه. وفوجئت بها، وهى تعاتبنى على أننى أسقطت دفعة بكاملها، لم يحصل فيها واحد من الطلاب والطالبات على الحد الأدنى الذى يمكنه أو يمكنها من الصعود من برنامج الماچستير إلى البرنامج الأعلى. ويبدو أنه كان من الصعب على زميلتى أن تتقبل عبارة «لم ينجح أحد» نتيجة تعتمدها بوصفها وكيلة الكلية للدراسات العليا. وقصصت على زميلتى الدكتورة لبنى قصة هذه المجموعة من الطلاب التى كنت أكثر من متساهل معها أثناء التدريس، بل إننى قلت لطلابها إننى سأطالبهم بالكتابة عن منهج واحد من المناهج التى قمت بتدريسها لهم، وأكاد أكون- فى هذا المجال- قد أعطيتهم سؤال الامتحان مسبقا. وتصورت بعد ذلك أننى سأقرأ كراسات إجابة مملوءة بالمعرفة ومعمقة فى الفهم، ولكنى فوجئت على العكس من ذلك؛ إذ إن الطلاب تعاملوا مع الموضوع باستهتار لا نظير له، ولم يقرءوا قراءة عميقة فى أى منهج من المناهج التى قمت بتدريسها لهم، فكانت الإجابات مزرية وكاشفة عن الانحدار الذى وصل إليه طلاب الدراسات العليا فى تلقيهم للمواد المعرفية، والاستهتار الذى تعودوا أن يقابلوا به الدروس، وهو استهتار ينتقل من المحاضرات العامة إلى رسائل الماچستير والدكتوراه، فيؤكد انحدار المستوى نفسه على مستوى الليسانس، والنتيجة هى ما نراه من فضائح علمية لطلاب يخطئون حتى فى الإملاء، ولا يستطيعون أن يقيموا جملة واحدة سليمة أو يظهروا نوعا من التفكير النقدى فى المناهج التى يتعاملون معها. والحق أننى فوجئت بهذا كله، فكانت النتيجة هى أننى لم أعط درجة النجاح لأى واحد من هؤلاء الطلبة والطالبات فى دفعة الماچستير التى أتحدث عنها، خصوصا أن درجة النجاح فى مرحلة الماجستير هى الحصول على 65% على الأقل. ولذلك جاءت مكالمة الدكتورة لبنى مشفقة على الطلاب، وتطلب منى– بحكم ما لدى من إعزاز لها- أن أعيد النظر فى الأوراق حتى لا تكون النتيجة صفرا فى هذه المادة.
والحق أننى جلست مع نفسى أفكر فى بقية الامتحانات التى مر بها هؤلاء الطلاب، وسألت زملائى وتلامذتى عن انطباعاتهم عن الأوراق التى قرؤوها لطلاب الماچستير، وكانت الإجابات مؤسفة، مؤكدة انطباعاتى السلبية ومشيرة إلى انحدار رهيب فى المستوى التعليمى للطلاب. وسألت نفسى: ما أسباب هذا الانحدار الرهيب الذى أراه بعينى فى طلاب لا يحسنون القراءة باللغة العربية، وهم يجلسون لإعداد رسائل دكتوراه وماچستير فى الأدب أو النقد العربيين؟ وما السبب الذى يؤدى بهؤلاء الطلاب إلى هذا الكسل الغريب والعجيب الذى يحول بينهم وبين تلقى العلم على حقيقته؟. ولن أقوم بعمل مقارنة بين طلاب زمنى وطلاب هذا الزمان الذين لا يعرفون من هو نجيب محفوظ ولا عبد الحميد جودة السحار ولا حتى أحمد زويل أو محمد غنيم أو غيرهم من الأعلام الذين يلفتون الانتباه وتتكرر أسماؤهم يوميا فى الصحف، ناهيك عن كتابة جمل سليمة مفهومة، تنبئ عن فهم صحيح لموضوعها. وقلت لنفسى: إن المشكلة قديمة ولها أسباب كثيرة؛ أولها: تهاون الأساتذة الجامعيين فى تأدية مهام وظائفهم التعليمية، وتقبلهم للأوضاع القائمة التى تنتقل من السيئ إلى الأسوأ. وأذكر أننى كنت أناقش أطروحة للدكتوراه لطالبة من الطالبات مع أستاذين من تلامذتى، وفوجئت فى المناقشة بأن كليهما يقترح للطالبة أعلى الدرجات، وكان التبرير أن هذا هو المستوى، وأننا إن لم نعط طلابنا أعلى الدرجات فإننا نسد أمامهم أبواب التعيين فى الجامعات والمعاهد، ولذلك نضرهم ولا ننفعهم، كما لو كان من واجبنا أن نجمَّل القبيح، ونحسَّن الردىء، ونصف الجاهل بصفة العالم، وذلك فى مجال العلم الذى لا يصح فيه سوى الصحيح. وأعتقد أن هذا الوضع ظل يتفاقم منذ سنوات عديدة، ويزداد سوءًا مع ظاهرة الجامعة ذات الأعداد الكبيرة التى لا يجد فيها الأستاذ سبيلا لأن يتحاور مع طلابه، ويعرفهم طالبا وطالبة، ويتمكن من الإشراف عليهم على نحو شخصى. وإذا أضفنا إلى ذلك ما يعانيه الطلاب أنفسهم من إحباط لأنهم لا يجدون وظائف بعد أن يتخرجوا فى الجامعة، فتتكون لديهم نزعات إحباط تزيدهم استهتارا بما يدرسون، وشيئا فشيئا تتحول الجامعات إلى مدارس مكتظة بالطلاب، لا يجد فيها كل الطلاب مكانا للجلوس، فضلا عن الحديث عن سوء وضع المعامل والمكتبات النوعية، وانعدام النسب القياسية العالمية بين أعداد الطلاب وأعداد الأساتذة، فضلا عن الحوار المطلوب بين الأستاذ والطلاب أو حتى مخاطبة العقل وتدريبه على الوعى النقدى، فكل هذه أشياء لم تعد موجودة ولا مطلوبة. وعندئذ يأتى السؤال الأهم: من المسؤول؟ هل هو الأستاذ أم الطالب أم المناخ العام الذى تعيش فيه الجامعة؟ أم الأوضاع السياسية التى تفرض على الجامعة الأعداد الكبيرة التى لا تسمح بتعليم حقيقى؟ أم نزعات الهوس الدينى التى تستبدل بالعلم تهوسا معاديا للعلم؟ كل هذه أشياء ممكن أن تكون مسببة لهذة الظاهرة. وكانت النتيجة هذا الوضع الذى وجدت نفسى فيه، وأنا أراجع أوراق طلبة وطالبات برنامج الماچستير لقسم اللغة العربية، فأجد نفسى مرغما على أن أعطيهم جميعا درجات لا ترتقى بهم إلى مستوى النجاح. وسألت نفسى: ماذا سأفعل مع الدكتورة لبنى عبد التواب عندما أراها، وعندما أعيد النظر فى الأوراق التى لم أر ورقة منها تستحق النجاح؟، هل سأتراجع أمام السائد وضغط المعتاد أم أننى سأتمسك بما انتهيت إليه وسأجد نفسى أميل– مرغما- إلى المهادنة، وأصل إلى حل وسط؟.
أيا كان الحال، فما قرأته من أوراق إنما هو إنذار بخطر داهم قد لحق بالتعليم العالى فى مصر وجعله تعليما منحدرا، ولذلك فأنا أحكى هذه القصة لا لمجرد الاستطراف، أو حتى الفضفضة، وإنما لكى أدق ناقوس الخطر بأن التعليم المصرى فى خطر داهم، وكون التعليم المصرى فى خطر عظيم يعنى أن العقل المصرى فى خطر داهم، ومن العار علينا أن نترك العقل المصرى يصل إلى ما وصل إليه؛ بسبب ضعف التعليم وتدهوره المتسارع، وصدقونى إن كل المشاريع الكبرى التى نتحدث عنها ليل نهار لا فائدة منها ولا فيها، ونحن نعتمد على نظام تعليمى مُهترئ، وعلى تقاليد علمية بالية، ونسمح بامتداد الفساد إلى الجامعات المصرية التى لم تعد جامعات، وإنما تحولت إلى مدارس تزداد ضعفا وهوانا.
أذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية فى يوم من الأيام وجدت أن تعليمها قد أصبح أقل من مستوى التعليم الأوربى، فصدر التقرير الأشهر بعنوان Nation in danger)) أى: وطن فى خطر، واهتزت الولايات المتحدة كلها لهذا التقرير. ونحن لا ينبغى أن نكتب تقريرا مثل ذلك، بل نكتب تقريرا أخطر، فتعليمنا لم تخترقه عوامل الفساد والتدنى والضعف فحسب، وإنما اخترقته عوامل الإرهاب الدينى والتعصب وتغييب الوعى والفساد والإفساد لدى أعداد هائلة من الطلاب، وأعداد موازية من الطلاب والقيادات الجامعية. ولا سبيل إلى التقدم بأى حال من الأحوال، وفى أى مجال من المجالات، إلا إذا بدأنا من التعليم وأعطيناه أهمية لا تقل عن أقصى الأهميات وأولى الواجبات، فبدون علم حقيقى لا حضارة، وبدون جامعة متقدمة لا وطن يعرف معنى التقدم. إن المستقبل يبدأ بالجامعة الحقيقية التى تحترم إلى درجة التقديس قيم العلم ومبادئه احترامها الوعى النقدى وحق الاختلاف. إن الجامعة التى أخرجت رجالا، مثل: مصطفى مشرفة، ومحمد غنيم، وطه حسين، ومجدى يعقوب، وأحمد زويل، هى الجامعة التى ينبغى أن نضعها أمام أعيننا بوصفها الطريق الوحيد للمستقبل.
2- الجامعة والثقافة
اسمحوا لى أن أنقل كلمات طه حسين فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»، وهو الكتاب الذى أصدره عام 1938(ومن المفروض أن نحتفى بمرور 80 عاما على صدوره فى العام القادم)؛ حيث يقول: «إن الجامعة بيئة لا يتكون فيها العالم وحده، وإنما يتكون فيها الرجل المثقف المتحضر الذى لا يكفيه أن يكون مثقفًا، بل يعنيه أن يكون مصدرًا للثقافة، ولا يكفيه أن يكون متحضرًا، بل يعنيه أن يكون منميًا للحضارة. فإذا قصّرت الجامعة فى تحقيق خصلة من هاتين الخصلتين فليست خليقةً أن تكون جامعةً، وإنما هى مدرسة متواضعة من المدارس المتواضعة وما أكثرها! وليست خليقة أن تكون مشرق النور للوطن الذى تقوم فيه والإنسانية التى تعملُ لها، وإنما هى مصنع من المصانع يُعِدُّ للإنسانية طائفةً من العلماء ومن رجال العلم، محدودةٌ آمالُهم، محدودةٌ قدراتُهم على الخير والإصلاح.
وينتج عن هذا أمران خطيران: أحدهما أن الجامعة يجب أن تكون مستقر الثقافة العميقة العامة لا بالقياس إلى نفسها فحسب، بل بالقياس إلى غيرها من البيئات أيضا. ولست أخفى عليك أنى أعترف فى صراحة وألم بأن جامعتنا بعيدة كل البعد عن بلوغ هذه المنزلة، فهى ليست مستقر الثقافة العميقة العامة بالقياس إلى نفسها أولا، وآية ذلك أنك تستطيع أن تتحدث إلى من شئت من الشباب الجامعيين فترى ثقافته سطحية ضيقة أشد الضيق. تحدث إلى المتخرج فى كلية الآداب أو الحقوق فتراه حسن الحديث إلى حد متواضع فى فنه الذى تخصص فيه، فإذا تجاوزت به هذا الفن فستراه كغيره من رجال الشارع. وتحدث إلى المتخرج فى كلية الطب أو الهندسة على شىء من الأشياء فى ذلك، فإذا تجاوزت به فنه الخاص فستراه رجلا من عامة الناس.
وما ينبغى أن تكون هذه حال الرجل الجامعى، وإنما أخص ما يمتاز به الرجل الجامعى سعة العقل والتفنن فى ألوان المعرفة. ومصدر هذا الجهل الذى نسجله محزونين على الشباب الجامعيين أمران؛ الأول: فساد التعليم الثانوى. والثانى: أن الحياة الجامعية نفسها ضيقة محدودة مقسمة أقساما متمايزة، فكل فرع من فروع الجامعة منحاز إلى نفسه منقطع عن غيره متوفر على جهوده الخاصة، ولو نظمت الحياة الاجتماعية للشباب الجامعيين تنظيما حسنا لأمكن أن يلتقى طلاب الطب والحقوق والعلوم والآداب والهندسة من وقت إلى وقت، بل لأمكن أن يعايش بعضهم بعضا، وأن تتصل بينهم المودة والألفة فيتحدث بعضهم إلى بعض ويتثقف بعضهم على بعض، ويعرف أولئك أطرافا مما عند هؤلاء، وتتحقق هذه الثقافة الواسعة المنوعة فى غير جهد ولا مشقة ولا عناء.
والأمر الثانى أن الجامعة يجب أن تكون مستقر الحضارة الراقية الممتازة التى لا تظهر آثارها فى الإنتاج العلمى والعملى وحدهما، وإنما تظهر قبل كل شىء فى هذه الصيغة النقية الصافية التى تقوم فيها الصلات بين الناس على المودة الشائعة والاحترام المشترك والإيمان بالواجب قبل الإيمان بالحق وتقدير ما لغيرك عليك قبل أن تقدر ما لك على غيرك، ثم فى إكبار النفس والارتفاع بها عن الصغائر وتنزيهها عن الدنيات، ثم فى هذا الذوق المهذب المصفى الذى يحس الجمال ويسمو إليه ويحس القبح فينأى عنه. وكل هذا لا يتحقق إلا حين تنظم الحياة الاجتماعية للشباب الجامعيين تنظيما حسنا يمكنهم من أن يعايش بعضهم بعضا، ويصلح بعضهم من شأن بعض ومن أن يشتركوا فى الاستمتاع معا بلذات العلم والفن. مرة بالاستماع للمحاضرات، وأخرى بالاستماع للموسيقى، ومرة ثالثة بشهود التمثيل، ثم بالاشتراك فى الألعاب الرياضية قبل كل شىء وبعد كل شىء».
هذه الكلمات التى قالها طه حسين فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» الذى صدر عام 1938، هى كلمات ينبغى أن تكون شعارا لكل رئيس جامعة، خصوصا بعد الانحدار الذى تشهده الجامعات المصرية. ولا أريد أن أسترجع التاريخ فأقول ماذا كان عليه حال كلية العلوم فى جامعة القاهرة عندما كان عميدها مصطفى مشرفة أو حال كلية الآداب عندما كان عميدها طه حسين، فالمهم هو أننا لا نريد أن نسترجع قيم الماضى العظيمة فحسب، وإنما نريد أن نضيف إليها قيما جديدة تتناسب والعصر الذى نعيش فيه، والذى يتحرك فيه كل شىء إلى الأمام أو يتحرك ما فيه حتى الحجر كما يقول أحمد شوقى، أو يذوب فيه كل شىء فى الهواء كما يقول كارل ماركس. والمهم أن كلمات طه حسين هذه كان لا يزال معمولا بها فى الجامعة المصرية عندما دخلت إلى كلية الآداب طالبا فيها فى سبتمبر 1961، فلم أجد طالبة واحدة منتقبة أو محجبة فى جامعة القاهرة من أقصاها إلى أدناها، ولم أجد سوى ذكرى الأساتذة الذين كان بعضهم لا يزال موجودا، فقد توفى طه حسين فى أكتوبر 1973، أى إنه ظل حيا لسنوات بعد التحاقى بالجامعة، وقد قابلته شخصيا وتلقيت عنه هذه المبادئ التى هى مبادئ أساسية للجامعة، ولا معنى للجامعة بدونها.
والحقيقة إن هذه الصفات الجميلة التى يتحدث طه حسين عن ضرورة وجودها فى الجامعة لم تعد قائمة، فقد أصاب الجامعة ما أصابها منذ السبعينيات، حين تسلمت الجماعات الإسلامية الجامعة المصرية بتحالف مع الحكم الساداتى، فقضت تدريجيا على كل المبادئ الجميلة والنبيلة التى أسسها جيل طه حسين، فلم تعد الجامعة منارة للإشعاع الثقافى فى المجتمع الذى تنتسب إليه، ولم تعد الجامعة ساحة للفكر الخلاق أو حتى فضاء إبداعيا ترتقى فيه مواهب الطلاب الفنية والإبداعية، وإنما تحولت الجامعة إلى بيئة طاردة للفكر الخلاق وحرية التفكير والإبداع على السواء. فقد وصل الأمر بالجماعات الإسلامية فى زمن السادات إلى أن تصدوا بالقوة والجنازير لضرب الطلاب والطالبات الذين كانوا يقومون بتقديم العروض المسرحية أو الفنية أو حتى الأمسيات الشعرية. ولذلك تحولت الجامعات المصرية من بيئات للتنشئة الثقافية والإبداعية الخلاقة إلى بيئات منغلقة، تحارب ما كانت معدة له فى أصل نشأتها، ولذلك تراجع دور الجامعة التنويرى وانحصر تأثيره الإيجابى فى المجتمع، بل للأسف تحول إلى دور مضاد؛ خصوصا فى جامعات الصعيد التى أتاح لها غياب الرقابة تكوين الجماعات الإسلامية الإرهابية التى تحولت بعد ذلك إلى مشروع جماعة الإخوان المسلمين. هكذا ضاع حلم طه حسين عن الجامعة وأستاذ الجامعة، ودورهما معا فى إنارة المجتمع وإيقاظ الوعى وإشاعة الوعى بالحرية وقيم التقدم فى المجتمع. وكما أنهيت الفقرة السابقة فإنى أنهى هذه الفقرة بتأكيد أنه لا سبيل إلى إنقاذ الجامعة من الآثار المدمرة التى لا تزال باقية فيها إلا بالعودة إلى جامعة طه حسين وبعثها بعثا جديدا، وليس هو المطلوب فحسب، بل الإفادة مما حدث من تطور فى جامعات العالم، منذ أن أملى طه حسين كلماته سنة 1938، وهو تاريخ يفصل بيننا وبينه ما يقرب من ثمانين عاما انقلبت فيه الدنيا مرات ومرات وتقدم فيه التعليم تقدما مذهلا، ولم يعد لنا من سبيل إلا إحياء مبادئ طه حسين والمضى بها فى زمن جميل يحقق لنا حلمنا عن الجامعة التى نحلم بها، والتى لم نر منها فى هذه الأيام إلا مسوخا مشوهة لا تليق بأعلامنا عن الجامعة التى نراها فى العالم المتقدم، والتى للأسف نتحسر على جامعاتنا عندما نراها. فمن لنا بإرادة وطنية وإجماع قومى على تثوير الجامعات المصرية لنخرجها من انحدارها إلى صعودها ونستبدل بواقعها المهين مستقبلا خلاقا واعدا بإرادتنا الحرة وبإلحاحنا على أن نحقق فى الجامعة وبالجامعة كل ما نرجوه لوطننا من قيم ومبادئ الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة بحق وبصدق. (البقية الأسبوع القادم)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.